بقلم علاء عمر
لم تعد أهمية الجبهة الإعلامية، أو فلنقل خط التماس الإعلامي، سراً خفياً على أحد.. سيّما في ظل ظروف باتت فيها المواجهات الإعلامية ضرورة تفرض نفسها بين معسكري مواجهة، أي مواجهة، حتى على مستوى محلي وربما مغرق بالمحلية.. في إطار التراشق المتبادل بالعمليات الإعلامية الخاصة.. والإعلام الروسي ليس استثناء.
الملاحظ أن القائمين على الإعلام الروسي والمقربين منه باتوا يزاولون وصف الحالة المتعلقة بالوضع على خط المواجهة بين روسيا وأوكرانيا وتداعيات هذه المواجهات، على المستوى السياسي والاقتصادي وحتى العسكري، لا أكثر.. كما قال صديق روسي.. “نحن في كارثة ولسان حالنا يقول أنا أغرق وأنت تصف لي الماء”. في الحقيقة لا يبدو لي أن الوضع الداخلي في روسيا كارثي كما يحاول البعض تصويره.. لكنه بكل تأكيد وضع غير طبيعي.. ويستوجب أن يكرس الإعلام جل طاقاته للبحث عن حلول لوضع حد له ومن ثم طرح هذه الحلول.
ويبدو كذلك أن المتابع للإعلام الروسي يلاحظ أيضا حالة التوتر التي انتابت أشد المؤيدين للعملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، حتى أن بعض هؤلاء، من سياسيين وعسكريين وإعلاميين، باتوا يتحدثون صراحة عن “إخفاق روسيا في تحقيق أهداف هذه العملية”.. بل وصل الأمر بالإعلامية مارغريتا سيمونيان حد طرح فكرة إجراء استفتاء في المناطق المتنازع عليها، بما في ذلك في روسيا، حول ما إذا كان أهالي هذه المناطق يرغبون بالبقاء في روسيا أم لا، مستبعدة أن الرئيس الروسي – ڤلاديمير پوتين معني بالاحتفاظ بمناطق لا يرغب سكانها بالبقاء داخل حدود روسيا الاتحادية.
ووفقاً لردود أفعال بعض النشطاء، هناك من رأى، مما قالته سيمونيان، أن الاستفتاء لا يتوقف على الأراضي التي تم ضمها إلى روسيا مؤخراً بل يشمل كذلك أراضٍ داخل حدود الاتحاد الروسي، ويبدو ذلك منطقياً استناداً إلى المعيار الذي حددته مارغريتا سيمونيان بنفسها، وهو رغبة أهالي المناطق بالبقاء داخل روسيا.. مع الأخذ بعين الاعتبار أنه ليست هناك أي أراضٍ روسية – داخل حدود روسيا قبل 24 فبراير 2022 – متنازع عليها بين موسكو وكييڤ.. حتى الآن على الأقل.
* في حضرة التهريج
كثيراً ما نسمع في الإعلام الروسي أن “بايدن مهرّج.. جونسون مهرّج.. زيلينسكي مهرّج ودُمية بيد الغرب”.. فضلاً عن أن القائمين على هذا الإعلام سيتعينون، من حين لآخر، بخبراء فيما يُعرف بلغة الجسد. وفي كل مرة يتحدث الإعلام الروسي، أو العربي، عن لغة الجسد هذه، التي توحي، على سبيل المثال، بأن الرئيس الروسي – ڤلاديمير پوتين يتمتع بشخصية أقوى من شخصية الرئيس الأمريكي – جو بايدن، أو يتناول الحالة الصحية السيئة للرئيس الأمريكي – جو بايدن بالسخرية والتهكم وبتصديره للمشاهد على أنه مجرد مهرج عجوز وعاجز، أتذكر هذه اللقطة من فيلم “بيتهوڤن”…
… مع فارق مهم وهو أن تِد نيوتن لم يكن يدرك حقيقة الموقف، على عكس جو بايدن الذي يدرك، ويعي تماماً – مع كل ما قد يعانيه الرجل من تراجع في قدراته الذهنية – أن أمريكا بمؤسساتها تقف خلفه وتسانده في قراراته. إذاً.. وبعيداً عن الهبل المُسمّى لغة الجسد – في لقطة، يحاول “خبير” إقناع مشاهديه بناءً عليها بقوة شخصية فلان على حساب علان فيما يحاول “خبير” آخر، من نفس اللقطة، إقناع المشاهدين بقوة شخصية علان على حساب فلان – أين هي مؤسسات روسيا الاتحادية التي ستواجه نظيراتها في الولايات المتحدة الأمريكية؟
وبالعودة إلى التهريج والمهرجين، بصفتهم مدعاة للسخرية والتقليل من الشأن.. يبدو أن الاستخفاف بهؤلاء، حينما يقنع أحدنا نفسه بأن فلان مهرج، قد يعود بنتائج غير مُرضِية. جان پول بلموندو أدى دور مهرج في فيلم “Hold-Up” يخطط للسطو على بنك.. ما يعني أنه من الوارد أن يكون هذا المهرج أو ذاك، على المسرح السياسي، يتعمد أداء هذا الدور من باب التمويه ليس إلا.
أما فيما يتعلق بـ ڤلاديمير زيلينسكي “الدُمية بيد الغرب”.. فهل هذا هو المهم؟ حسناً.. هو دُمية بيد الغرب، لكن هل هذا يحل مشكلة روسيا مع أوكرانيا، أو بالأحرى مع هذا الغرب؟ حتى لو أقر الرئيس الأوكراني بأنه دُمية وأعلن ذلك صراحة هل سيغير هذا من الواقع في أي شيء؟ قد يقول قائل إن الرجل دُمية بيد الغرب الذي يستخدمه لتحقيق أهدافه، ولكن ينبغي ألا يغفل أحد أن لهذه الدُمية أيضاً أهداف تحققها حالياً بمساعدة الغرب.. هذا واقع.
ثم هل وصف بعضنا لـ ڤلاديمير زيلينسكي بأنه دُمية نابع من رفض الدوران في فلك دولة ما أو التبعية لها، سواء المطلقة أو المشروطة؟ هناك من يصف رئيس وزراء المجر – ڤيكتور أوربان بأنه دُمية بيد روسيا، بينما بات البعض يصف السياسي المخضرم هنري كيسنجر بأنه أهم عميل في الغرب للصين، التي تسعى جاهدة لطرح خطط سلام بين روسيا وأوكرانيا يتم التوصل إليه حول طاولة مفاوضات.
لماذا إذاً يحق لروسيا أن تحرك خيوط الدُمى المتعلقة والمعلقة بها، ولا يحق للغرب أن يرقّص دميته على وقع موسيقاه؟
فضلاً عمّا تقدم، وفي ذات السياق.. يبدو لي أن الأمر لم يعد متعلقاً بالرئيس الأوكراني ڤلاديمير زيلينسكي.. إذ أنه حتى لو لم يعد هناك زيلينسكي، من الواضح أن هناك تيار أوكراني جارف رافض لأي مفاوضات، خاصة في الظرف الراهن الذي تشهد فيه روسيا مشاحنات داخلية، بين سياسيين ومقربين من دائرة اتخاذ القرار الضيقة، فضلاً عن ظهور عامل جديد قد لا يكون مؤثراً، وهو ما يتمثل بما بات يُعرف بـ “فيلق حرية روسيا” الذي اخترق حدود روسيا واستهدف مقاطعة بيلغورود.
من الملاحظ في الإعلام الروسي أيضاً المحاولات المتكررة لربط ألمانيا بالنازية.. بهدف استحضار معاناة الشعب الروسي وشعوب الاتحاد السوڤييتي ككل، التي واجهت ألمانيا النازية بالحرب الوطنية العظمى (1941 – 1945) ما أسفر عن سقوط ملايين الضحايا السوڤييت.
ولكن المعذرة.. ما علاقة ألمانيا الأمس بألمانيا اليوم؟ صحيح أنه هناك تاريخ ألماني يجمع بين الألمانيتين.. النازية والحالية.. ولكن هل يعني ذلك أن الشعب الألماني مُطالب بتقديم الاعتذار والتكفير عن الكوارث التي تسبب بها أدولف هتلر وعصابته.. وحتى نسبة لا يُستهان بها من الشعب الألماني في حينه.. 24/7؟
ثم ما معنى محاولة احتكار هذه الحالة “الكربلائية” المرتبطة بألمانيا النازية أولاً، ومن ثم ربطها بألمانيا الحالية ثانياً؟ وبالمناسبة.. لا بد من الأخذ بعين الاعتبار أن الطرف المستهدف بالحرب الوطنية العظمى من قِبَل النازيين والفاشيين في حينه لم يكن روسيا بل كان الاتحاد السوڤييتي ككل، بما في ذلك روسيا وأوكرانيا، بل قد يكون من العدل ذكر أوكرانيا أولاً، عند تناول الأمر من هذه الزاوية، لأن كييڤ كانت أول مدينة سوڤييتية تعرضت للاعتداء النازي، ما أشعل نار الحرب الوطنية العظمى.. فعلى أي أساس يحق لطرف الترويج لفكرة تفيد بأن ألمانيا كانت ولا تزال نازية، لتحقيق مكاسب إعلامية، على حساب طرف آخر يستعين بألمانيا عانى هو أيضاً من النازية! بعبارة أخرى.. لماذا لا يرى الشعب الأوكراني في ألمانيا الآن ألمانيا النازية ذات يوم؟ وبما أن ألمانيا كانت ولا تزال نازية.. كيف يستسيغ الشعب الروسي، وفي مقدمتهم المسؤولين ورجال الدولة، اقتناء السيارات الألمانية الفارهة؟ أم ألمانيا نازية ولكن سيارتها تعمل ببنزين مناهض للنازية؟
من التصريحات التي تناولها الإعلام الروسي أيضاً.. تصريح الرئيس الفرنسي – إيمانويل ماكرون، الذي دعا من خلاله الغرب إلى “إعادة النظر بدعم القوات الأوكرانية المسلحة في حال طال أمد الصراع في أوكرانيا”.
بتصوري أن تصريح ماكرون هذا يندرج في سياق الإيحاء لروسيا بأن تستعد بكل ما لديها من قوة لإفشال الهجوم الأوكراني المضاد، بحيث يتم تجسيد الفكرة التي طرحها الرئيس الفرنسي.. ما يعني أن الهدف من هذا التصريح الملغوم، في هذه الحالة، هو استنزاف المزيد والمزيد من القوة العسكرية الروسية، ويبدو لي أن هذا وارد.. في إطار العمليات الإعلامية الخاصة.
وفي حال نجحت روسيا بإحباط الهجوم الأوكراني المضاد إحباطاً شاملاً وعلى كافة الجبهات، هل هذا يعني فعلاً أن الغرب سيتوقف عن دعم أوكرانيا؟ أعتقد أنه من المهم طرح هذا التساؤل في روسيا بكل صراحة وبصوت عال.. سيّما في ظل ما يتداوله إعلاميون وضيوفهم في البرامج الحوارية حيث يردد هؤلاء.. “سيعطونهم كل شيء”.
من بين الأمور التي تناولها الإعلام الروسي في الآونة الأخيرة الانتخابات الرئاسية في تركيا، وذلك بتصوير فوز رجب طيب إردوغان وكأنه هزيمة، للغرب، أو على الاقل بتصدير هذه النتيجة وكأنها غير مريحة للغرب.. الذي يتم الترويج أنه راهن على المرشح المنافس لإردوغان – كمال كليجدار أوغلو.
هل الغرب معني فعلاً بفوز كمال كليجدار أوغلو بمنصب الرئاسة في تركيا؟ ربما كان الأمر كذلك لو أن هذه الانتخابات أجريت قبل 24 فبراير 2022 وذلك لسبب بسيط، وهو أن الغرب معني بالإبقاء على طرف خيط.. شعرة معاوية كما نقول نحن العرب، مع روسيا من خلال تركيا.. أي، وتحديداً من خلال رجب طيب إردوغان، لأن فوز كمال كليجدار أوغلو سيؤدي إلى المزيد من التصعيد في العلاقات التركية – الروسية وهو تصعيد غير مرغوب به في الظرف الراهن.
كل ما هنالك أن كليجدار أوغلو رجل أمريكا من فوق الطاولة فيما إردوغان رجل أمريكا من تحت لتحت.. بغض النظر عمّا يُقال في إطار العمليات الإعلامية الخاصة هنا وهناك.
وأخيراً.. ثمة ملاحظة عابرة حول تصريح أدلى به المتحدث الرسمي باسم الكريملِن – دميتري پيسكوف الذي قال إن “موسكو تقوم بالعملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا لتحقيق أهداف محددة. موسكو تفضل تحقيق هذه الأهداف بوسائل غير عسكرية لكن الغرب لم يترك خيارا آخر”.
قد يبدو للوهلة الأولى أن تصريح دميتري پيسكوف يحمل في طياته تراجعاً عن موقف روسيا في المضي قُدُماً بالعملية العسكرية الخاصة، وذلك في حال ركّز المتلقي على “بسبل غير عسكرية”. التصريح بحد ذاته ليس بهذا المعنى المباشر، بل على العكس، إذ يبدو أنه يعني أن روسيا ستواصل العملية العسكرية حتى النهاية إن أخذ المتلقي بعين الاعتبار أن “الغرب لم يترك لروسيا خياراً آخر”.. علماً أن التصريح جاء على الحد الفاصل بين الفكرتين ربما ليؤدي دور رسالة مفادها أن موسكو على استعداد للعودة إلى المربع الأول ولكن بشروط.. ما يعيد الأمر برمته إلى نقطة البداية حين طالبت روسيا حلف شمال الأطلسي، الـ “ناتو” بالتراجع إلى حدود 1997.. الأمر الذي يطرح تساؤلاً عمّا إذا كانت مجريات الأحداث الأخيرة وتطوراتها تسمح لموسكو بطرح هذه المطالب، التي رفض الغرب تلبيتها عندما كان هذا الغرب يتعامل مع روسيا بصفتها قوة عسكرية لا يُستهان بها، فهل من الوارد أن يلبيها الآن وهو يرى القلاقل التي تشهدها روسيا على الجبهة الداخلية؟!!!
* العودة إلى حدود 97.. وما أشبهها بالعودة إلى حدود 67
وبالعودة إلى حدود 1997، من الجدير بالذكر أن الرئيس الروسي – ڤلاديمير پوتين كان قد صرّح في روما، في لقاء جمعه بقيادات الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي عام 2002، أن أوكرانيا دولة مستقلة ويحق لها اختيار الطريق الذي تراه مناسباً لها لحماية نفسها.. أضف إلى ذلك تصريح الرئيس الروسي الأخير، حول انضمام فنلندا للحلف إذ قال إنه ليست لدى روسيا أي مشاكل فيما يتعلق بهذا الأمر، “انطلاقاً من أنه ليست هناك مناطق متنازع عليها بين روسيا وفنلندا”. حسناً.. وما هي المناطق المنازع عليها بين روسيا و.. تشيكيا أو المجر، بلغاريا أو پولندا على سبيل المثال؟.. وذلك في ضوء خبر نشرته صحيفة “ڤزغلياد” في 23 مايو 2022 بعنوان.. “روسيا تعلن عن أراض متنازع عليها مع فنلندا”.
… يعني، روسيا من جهة تطالب الـ “ناتو” بالعودة إلى حدود 1997، ومن جهة أخرى روسيا لا تعترض على حدود ذات الـ “ناتو” عام 2023؟!!!
لا أدري.. ربما هناك منطق في هذا الطرح، لكن ما يبدو جلياً بما لا يدع مجالاً للشك أن روسيا لا تبدو مقنعة جداً في خطابها الإعلامي، ما يقتضي العمل على خلق معايير أكثر منطقية لتحقيق الأهداف المرجوّة من العمليات الإعلامية الخاصة.