كيف نفهم الصراع الروسي الأطلسي حول أوكرانيا؟

0

 

خالد البوهالي كاتب وباحث مغربي في الشؤون الروسية

عندما كان المفكر الأمريكي فرنسيس فوكوياما يروج لأطروحته “نهاية التاريخ”، اعتبر أن صراع الإيديولوجيات قد انتهى إلى غير رجعة بعد انتصار الليبرالية على النازية والشيوعية، معتبرا أن الليبرالية الديمقراطية هي التي ستسود إلى الأبد، بعد انتصار الغرب على الشرق. ما يسمح بإقامة حكومة عالمية.

انْبَنَتْ أدبياتُ الفكر الليبرالي الغربي على العديد من السِّمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي قد لا تتوافق والخصوصيات الدينية والثقافية والحضارية للشعوب والأمم، إذ تدعو إلى التَّجَرُّدِ من كل القِيَمِ الروحية والإنسانية والتقاليد الاجتماعية في مقابل القيم المادية الجوفاء والحريات الفردية والحداثة العجفاء، مثلما تدعو إلى سمو الفرد على الجماعة. ما حَوَّلَ الإنسان إلى كائن مادي مجرد من كل نُزعة دينية أو أخلاقية أو إنسانية.

استعمل الغرب في فرض أفكاره العديد من الوسائل، كشكل من أشكال الاستبداد الفكري والأحادية الإيديولوجية، بدول العالم الثالث، ولم تَسْلَمْ منها حتى الدول الإسلامية والعربية، مثل ابتزاز الأنظمة السياسية الحاكمة، أو تمويل بعض ما يسمى “منظمات المجتمع المدني”، أو استقطاب المثقفين من تلك الدول والترويج لهم في وسائل الإعلام، لنشر هذه الأفكار داخل مجتمعاتهم. في إطار ما يسمى بالقوة الناعمة. وقد نجح في فرضها إلى أبعد حد.

لكن ما غاب عن ذهن مفكري الغرب، أن حركية التاريخ لا تقف عند زمكان معين، بل هي في مسيرة دائمة إلى الأمام، ونجاح فِكْرٍ في لحظة ما من التاريخ، لا يعني أنه صالح لكل الأزمنة، لأن العقل البشري مجبول على الخلق والابتكار، وهذه من سنن الله تعالى في خلقه منذ العصور الغابرة.

في اللحظة التي كان الغرب ينتشي بانتصاره على الشيوعية، وينظر إلى الدول الأخرى بفوقية، بدأت نظرية جديدة تتبلور في روسيا أطلقت على نفسها اسم “النظرية الأوراسية أو الفلسفة الرابعة”، كما يحلو لمُنَظِّرِيهَا تسميتها، وإن أخذت طابعا قوميا في البداية، بسبب الوضع الذي كانت عليه روسيا أيام حكم يلتسين، بيد أنها أخذت طابعا عالميا في السنوات الأخيرة.

مرت النظرية الأوراسية بالعديد من المراحل، وبلغت الذروة في بداية الألفية الثالثة، وهي امتداد لأفكار العديد من الآباء المؤسسين لها، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر ليف غوميليف (ابن الشاعرين الكبيرين نيكولاي غوميليف وآنا أخماتوفا غورينكو) والأمير نيقولاي تروبسكوي وبيتر نيكولايفيتش سافيتسكي وألكسندر دوغين.

تطرح النظرية الأوراسية نفسها بديلا لليبرالية بعد فشل النازية والشيوعية في القضاء عليها، فهي ليست نظرية جيوسياسية تتعلق بنطاق جغرافي تقيم فوقه شعوب ذات خصوصية ثقافية وعرقية ودينية معينة تختلف عن مثيلاتها في الغرب، بل أيضا نظريةٌ فلسفيةٌ، اقتصاديةٌ، سياسيةٌ، اجتماعيةٌ، وروحيةٌ، تمزج بين العودة إلى التقاليد والإيمان الديني والحداثة، بما يتماشى مع القيم الروحية والحضارية للمجتمعات الإنسانية المعاصرة في إطار عولمة متعددة الأقطاب.

متى يقتنع الغرب بعبثية الحرب في أوكرانيا؟

وهو ما سار عليه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد وصوله إلى سدة الحكم في الكرملين، إذ سعى لبلورة التوجهات الأوراسية من خلال الخطاب الذي توجه به الى المجلس الفيدرالي في 25 أبريل/نيسان 2005 الذي قال فيه: “إن روسيا الاتحادية دولة تصون قيمها الخاصة وتحميها، وتلتزم بميراثها وطريقها الخاص نحو الديمقراطية”

كما أن المستشار الألماني أولاف شولتس صرح أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يخوض حربا صليبية على أوكرانيا هي حرب على الديمقراطية الليبرالية التي قوامها الحرية والازدهار وحقوق الانسان. والنظام الدولي القائم عليها، في مغالطة فاضحة تنطوي على الكثير من الأباطيل والتضليل.

وبين التصريحين أعلاه، يتبين أن الحرب الروسية الأوكرانية لا تقتصر فقط على البعد الجيوسياسي القائم بين حضارتين متنافرتين حضارة البر (الأوراسية التيلورقراطية) والبحر (الأطلسية التلاسوقراطيا)، بل الأمر يتجاوز إلى أبعد من ذلك، كون الصراع يأخذ أيضا طابعا إيديولوجيا.

روسيا ترى في انتصارها بأوكرانيا على الغرب وقيمه الليبرالية، انتصارا لِقِيَمِهَا التي تؤمن بها وتدافع عنها، وفق تصورها للعالم في إطار نسق دولي متعدد الأقطاب، بعيدا عن الغطرسة الغربية التي أضرت بشعوب العالم، ما يسمح لها بالتحرر التدريجي من الهيمنة الغربية على ثرواته ومقدراته، وهو ما بدأنا نلمسه في بعض الدول في إفريقيا مؤخرا.

لذا سار الغرب في اتجاهين، الأول عبر محاولته حصار روسيا وإشعال الحرائق في محيطها الجيوسياسي، بهدف تحطيمها، ولا ننسى توصيات مستشار الأمن القومي الأمريكي زبيغينيو بريجنسكي الذي أوردها في كتابه بعنوان ” رقعة الشطرنج الكبرى” إذ يعتبر أن الأفضل للغرب هو روسيا غير الموجودة والمحطمة التي يستغلها جيرانها”، على حد قوله، و الثانية إعادة النظر ولو تكتيكيا في سياساته تجاه الدول النامية – لقطع الطريق عن روسيا و الصين – بهدف استقطابها الى جانبه، الضحية الأولى للسياسات الغربية التي سرقت ثرواته وأمواله وجعلته يعيش على عتبة الفقر والهشاشة، في انتظار ما ستؤول إليه الحرب الروسية الأوكرانية.

إجمالا، لا يبدو أن الغرب سينجح في مسعاه، لعدة أسباب من بينها أن العالم لم يعد يثق في السياسات الغربية القائمة على الاستغلال والهيمنة وعدم الوفاء بالوعود، وحتى الحلفاء التقليديون للغرب باتوا يقيمون شراكاتهم الاقتصادية والاستراتيجية مع روسيا والصين في إطار سياسة تنويع الشركاء، لأنهم أدركوا أن النسق السياسي الدولي الأحادي القطبية في طريقه نحو الأفول التدريجي وحلول النسق الدولي متعدد الأقطاب بقيادة روسيا والصين محله، الذي هو مطمح شعوب دول العالم للتخلص من كل أشكال الهيمنة.

إرسال تعليق

0تعليقات
إرسال تعليق (0)

#buttons=(Accept !) #days=(20)

Our website uses cookies to enhance your experience. Learn More
Accept !
To Top