القوة العسكرية والاقتصادية والنووية.. سر بقاء 3 دول فقط في قمة النظام العالمي

0

دفاع العرب Defense Arabia

العقيد الركن م. ظافر مراد

يتم التداول في مصطلح “القوى العظمى” في مجالات الأمن والاقتصاد والسياسة والعسكر، واللافت في الموضوع، أنه ومنذ تفكك الاتحاد السوفياتي وزوال الثنائية القطبية، وعلى الرغم من سيطرة الولايات المتحدة على النظام العالمي بما يُعرف بالأحادية القطبية، حافظت ثلاث قوى عالمية على ريادة ترتيب “القوى العُظمى” ولم تستطع أي دولة أخرى خرق هذا الترتيب، أو حتى الاقتراب من هذه المراكز الثلاث، ولا يبدو أنه في المستقبل المنظور سيتغير شيء في ذلك، ويأتي ترتيب هذه القوى على الشكل التالي: الولايات المتحدة الأميركية في المرتبة الأولى، روسيا الاتحادية في المرتبة الثانية، وجمهورية الصين الشعبية في المرتبة الثالثة.

لقد حافظت هذه الدول على هذا الترتيب في قياس القوة العالمية في كافة المواقع ومراكز البحوث الدولية الموثوقة، أما السبب في ذلك فيعود إلى حيازة هذه الدول على معايير “القوى العُظمى” المطلوبة جميعها، ونستطيع إدراج هذه المعايير على الشكل التالي:

  1. القوة العسكرية المتفوقة: يُعتبر موقع “Global Fire Power” الأبرز عالمياً والأكثر مصداقية في تصنيف القوة العالمية للدول مستنداً على العديد من المعايير والاعتبارات العلمية والمنطقية في هذا التصنيف، وهو يؤكد ومنذ وقتٍ طويل على الترتيب الذي يضع الولايات المتحدة في المرتبة الأولى، وروسيا الاتحادية في المرتبة الثانية، وجمهورية الصين الشعبية في المرتبة الثالثة، ومعايير القوة العسكرية لا تستند فقط على حيازة الأعتدة والأسلحة المتفوقة وبكميات كبيرة، بل أيضاً يطال مفهوم “الاستقلالية” في التصنيع وعدم الحاجة إلى جهات أو دول أخرى لرفد الدولة بالسلاح المطلوب بكافة مكوناته البرية والجوية والبحرية والفضائية، وأيضاً قدرات الحرب الإلكترونية والسيبرانية. لذلك فإن الدول غير القادرة على تأمين استقلالية في هذه المجالات، ولا تمتلك قدرات التصنيع الشاملة والهائلة للسلاح، ستبقى مصنفة من القوى الإقليمية ومن الصف الثاني.
  • امتلاك قدرات الردع النووي وإمكانية الرد بعد تلقي الضربة النووية الأولى إذا حدثت: ما يعني الصمود والبقاء في أي حرب نووية، وهذا يتطلب امتلاك عدد كبير جداً من الرؤوس النووية، ونشر منظومات الأسلحة النووية والقدرة على إطلاقها في مجالات متعددة من البر والبحر والجو والفضاء، وفي مناطق مختلفة وخارج إقليم الدولة، لا سيما في أعالي البحار، وفي هذا الشأن، ووفقاً لموقع “Statista” تمتلك روسيا أكبر عدد من الرؤوس النووية ( 5580)، والولايات المتحدة الأميركية في المرتبة الثانية (5044)، والصين في المرتبة الثالثة (500)، مع الإشارة إلى أن الصين تعمل على زيادة هذا العدد بشكلٍ سريع. وهنا تجدر الإشارة إلى التفوق الروسي الواضح في مجال الصواريخ فرط صوتية (بعضها تزيد سرعته عن 20 ماخ)  القادرة على حمل الرؤوس النووية، والتي يصعب على أنظمة الدفاع الجوي الحديثة اعتراضها.  
  • القوة الاقتصادية وامتلاك الثروات والموارد: يشكِّل الاقتصاد القوي ضمانة لاكتساب قوة عسكرية متفوقة وتأمين مزيد من الرفاهية والتطور العلمي والتكنولوجي للدولة، ووفقاً لبيانات “Statista” للعام 2024، يأتي ترتيب الدول وفقاً لما يلي: الولايات المتحدة الأميركية (GDP: 29.167 Trillion US $)، الصين في المرتبة الثانية (Trillion US $ GDP: 18.273)، وروسيا الإتحادية في المرتبة الحادية عشر(Trillion US $ GDP: 2.376)، وتسبق روسيا العديد من الدول في قيمة الناتج الإجمالي المحلي، ولكن لدى روسيا موارد طبيعية وثروات هائلة، لا سيما في احتياطيات النفط والغاز والتي تضعها التقديرات في المركز الأول عالمياً، ووفقاً لموقع “الطاقة” المتخصص في هذا الشأن، فإن روسيا تمتلك احتياطيات نفطية مؤكدة تصل إلى 19،1 مليار طن، إضافةً احتياطيات غاز تصل إلى 43،9 تريليون متر مكعب، ويعتقد أن هناك المزيد من الخزانات الطبيعية الروسية التي لم تكتشف لغاية الآن، ما يجعل روسيا لاعب أول في مجال تأمين الطاقة على المستوى العالمي، ويجعلها تحتفظ بثروة هائلة للمستقبل، وفي الوقت الذي تتفوق فيه بعض الدول على روسيا في مجال الاقتصاد، إلا أن معظمها (الدول الأوروبية) تفتقر للموارد اللازمة للمحافظة على القوة الاقتصادية، حيث تستورد المواد الطبيعية وموارد الطاقة من الخارج، وبالتالي فهي تفتقر إلى الاستقلالية في هذا الشأن. 
  • العمق الإستراتيجي: لا يمكن لأي دولة أن تكون “دولة عُظمى” دون أن تمتلك عمق إستراتيجي مادي من حيث المساحة والموقع، والتي لا يمكن السيطرة عليها أو استهدافها كاملة مهما عظمت قدرات العدو، وهذا المعيار متوافر عند الولايات المتحدة وروسيا والصين، وفي الحديث عن العمق الإستراتيجي، يجب الحديث عن النظريات الجيوبوليتيكة التي تُعطي ميزات هامة للدولة، ويُعتَبر عالم الجغرافيا والسياسة البريطاني “هالفورد جون ماكندر – Halford John Mackinder ” (1861- 1947) أَوَّلْ من وضع نَسَقاً تصورياً للتفكير في العالم كوحدة سياسية واحدة قابلة للتحكم، وحاول أن يُقَدِّم مفاتيح اللعبة السياسية الكبرى وكيفية إدارتها، حيث تُعد نظرية “قلب العالم-Heart Land”  التي جاء بها في مقال له تحت عنوان”محور الارتكاز الجغرافي في تعاليم التاريخ – The Geographical Pivot of History”، أَوَّلْ نظرية عامة في الاستراتيجية العامة والقوى العالمية. وقد ألمح ماكيندر إلى مقدار القوة التي تعطيها هذه الميزة لروسيا كقوة برية في مواجهة القوة البحرية البريطانية في تلك الفترة، حين كانت بريطانيا “قوة عُظمى”، وقد خلص ماكيندر إلى نتيجة مفادها أن من يحكم شرق أوروبا يحكم قلب الأرض، من يحكم قلب الأرض يحكم الجزيرة العالمية، ومن حكم الجزيرة العالمية حكم العالم. لذلك لا نستغرب الصراع القائم حالياً بين أوكرانيا وروسيا، والذي يأتي في إطار تغيير الواقع الدولي باتجاه نظام عالمي متعدد الاقطاب، وذلك من خلال حماية روسيا لنطاقها الإقليمي ومجالها الحيوي والسيطرة على بحر آزوف واكتساب تفوق في البحر الاسود وفي شرق أوكرانيا الغنية بالموارد والمواقع الإستراتيجية. وفي الوقت الذي تعتبر فيه الولايات المتحدة قوة بحرية عالمية أولى، لا تزال تفتقد للبعد البري القريب من مواقع الصراع على المناطق الإستراتيجية، لذلك هي تنشر قواتها في مختلف أنحاء العالم، من خلال أكثر من 750 قاعدة عسكرية خارج البلاد. مقابل ذلك نرى أن الصين تسعى للسيطرة على بحر الصين الجنوبي وتعارض بشدة استقلال تايوان، وهي تستعد للحرب لتمنع هذا الاستقلال، حيث تمثل سيطرتها على تايوان، الحلقة الأخيرة في استكمال وتعزيز موقعها الجيوبوليتيكي، لتتمكن من بعدها الانطلاق بحرية نحو مزيد من النفوذ في منطقة الإندو/باسيفيك، ولتكون أكثر قوة ومنعة في مواجهة الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها هناك.
  •  القدرة والإرادة السياسية على قبول المخاطرة وشن الحروب الشاملة: قد يبدو هذا المعيار غريباً وغير متوقع، ولكنه في الحقيقة من أهم المعايير التي يمكن للدولة من خلالها تكريس القدرة على الردع ضد الأعداء، فلا يمكن لدولة لا تمتلك الجرأة على خوض الحروب أن تشكل أي تهديد لأعدائها وأن تردعهم عن المس بمصالحها، وفي هذا المجال تأتي الولايات المتحدة الأميركية في طليعة الدول التي شنت وخاضت حروب متعددة في العديد من المناطق في العالم، وتأتي روسيا بعدها والتي خاضت حروب عديدة في مناطق عديدة مثل الشيشان وأفغانستان، وهي لا زالت تخوض حرباً قاسية ضد أوكرانيا وضد الناتو بشكلٍ غير مباشر، أما بالنسبة للصين، وعلى الرغم من عدم تورطها في أي حروب وتركيزها على التجارة والاقتصاد في تعزيز قوتها العالمية، إلا أنها تستعد لحرب محتملة ضد تايوان ومن يقف معها في حال قررت إعلان الاستقلال النهائي عن الأرض الأم الصين، وفي حال إقدامها على خطوات عسكرية وقانونية في هذا المجال. ويبدو من خلال المناورات العسكرية الصينية في محيط تايوان، أن القيادة الصينية جادة وتقبل المخاطرة في أي حرب قد تراها ضرورية لحفظ سيادتها وحماية مجالها الحيوي في بحر الصين الجنوبي. وفي نفس الموضوع، نستطيع أن نعطي مثلاً عن بريطانيا التي قامت بحملة بحرية كبيرة لشن الحرب في جزر فوكلاند عام 1982، والتي تبعد 12755 كلم عن بريطانيا، وجاء انتصارها في هذه الحرب ليؤكد قوتها العسكرية وإرادتها في حماية مصالحها وخوض الحروب من أجل ذلك، مقابل بريطانيا، نلاحظ تراجع النفوذ الفرنسي في أفريقيا، وخروج قواتها من العديد من الدول، على الرغم من توقع البعض قيامها بأعمال عسكرية للبقاء هناك والدفاع عن مصالحها، إلا أن ذلك لم يحدث.
  • التاريخ والحضارة والسمعة العالمية: على الرغم من عدم القدرة على صرف هذا المعيار في أية مواجهة عسكرية، إلا أنه يستفاد منه بشكلٍ كبير في مجال “القوة الناعمة” والقدرة على التأثير واكتساب الحلفاء وتعزيز العلاقات الخارجية والتعاون في مجالات الأمن والاقتصاد والسياسات الخارجية والمواقف في المحافل الدولية، وفي هذا المجال، وعلى الرغم من الضعف التاريخي والحضاري المؤثر، تتفوق الولايات المتحدة على المستوى العالمي في علاقاتها الخارجية واكتساب الحلفاء، فهي عضواً أساسياً في حلف الناتو، وفي تحالف كواد الرباعي ( الولايات المتحدة الأميركية، اليابان، أستراليا، الهند)، وتفاهم أوكوس (الولايات المتحدة الأميركية، المملكة المتحدة، أستراليا)، إضافةً إلى سيطرتها على الكثير من المؤسسات الدولية الكبرى، مثل منظمة الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ومقابل ذلك، تتمتع كل من روسيا والصين بتاريخ معروف وسمعة حضارية ممتازة، وهما عضوان مؤسسان لمجموعة البريكس، وهي مجموعة إقتصادية-سياسية تضم البرازيل، روسيا، الهند، الصين وجنوبي أفريقيا، ثم ضمَّت لها منذ مطلع العام 2024، كل من مصر، السعودية، الإمارات، إيران وأثيوبيا. وتهدف هذه المجموعة إلى إقامة نظام دولي يُضعف الهيمنة الأميركية لا سيما في المسائل الإقتصادية والأمنية.   

مقابل كل ما ورد ذكره، وفي خضم التنافس على الهيمنة والسباق على الموارد الطبيعية ومحاولات التفوق التكنولوجي والعلمي عند الدول، لا يبدو أن هناك تغيير جذرياً سيحدث في ترتيب القوة العالمي وتحديد القوى العظمى واللاعبين الدوليين الأقطاب، وستبقى الولايات المتحدة رائدة في هذا المجال، تليها روسيا والصين، أما الباقون فهم بعيدون بعض الشيء على الرغم من القدرات الاقتصادية والعلمية المتفوقة، إذ أن معيار القوة في المسرح الدولي يستند إلى القوة العسكرية والإرادة والقدرة على خوض الحروب الشاملة، والجرأة في تقبل المخاطر عالية المستوى، وتحمل تداعيات هذه الحروب.     

The post القوة العسكرية والاقتصادية والنووية.. سر بقاء 3 دول فقط في قمة النظام العالمي appeared first on Defense Arabia.

إرسال تعليق

0تعليقات
إرسال تعليق (0)

#buttons=(Accept !) #days=(20)

Our website uses cookies to enhance your experience. Learn More
Accept !
To Top