المرحلة الانتقالية في سوريا: تشخيص التحديات وسبل المواجهة

0

دفاع العرب Defense Arabia

العقيد خالد المطلق

سوريا تلك الأرض العريقة التي احتضنت حضارات شامخة هوت في أتون صراع دامٍ تاركة وراءها ندوبًا عميقة في نسيجها الاجتماعي وذاكرة أبنائها، لم تكن الثورة السورية مجرد اضطراب داخلي عابر بل تحولت إلى مأساة إنسانية بكل المقاييس، حيث نزح الملايين وفُقدت أرواح لا تُحصى وتشتت العائلات مخلفة واقعًا سياسيًا واجتماعيًا بالغ التعقيد، ولكن ماذا بعد أن تصمت البنادق؟ هنا يبرز مفهوم “المرحلة الانتقالية” كبوصلة ترشدنا نحو المستقبل، تخيلها كرحلة دقيقة وشائكة تبدأ بعد عاصفة هوجاء حيث تسعى المجتمعات التي مزقتها النزاعات إلى تضميد الجراح، وإعادة بناء ما تهدّم ووضع أسس جديدة لمستقبل أكثر أمانًا واستقرارًا، إنها الفترة الزمنية التي يتم فيها الانتقال من واقع الصراع والفوضى إلى نظام سياسي واجتماعي جديد، وهي لحظة حاسمة إما أن تقود إلى التعافي والازدهار أو إلى الانزلاق مجددًا في دوامة العنف، إذًا لماذا نولي اهتمامًا خاصًا بتحديات هذه المرحلة في سوريا تحديدًا؟ ببساطة لأن فهم العقبات التي تعترض طريق هذا التحول ليس مجرد تمرين أكاديمي بل هو ضرورة ملحة لكل من يتطلع إلى رؤية سوريا تتعافى وتستعيد عافيتها، إن إدراكنا لهذه التحديات يمكّننا من دعم الجهود الرامية إلى تحقيق سلام واستقرار دائمين، ويساعدنا على مساءلة الأطراف المعنية لضمان عدم تكرار مآسي الماضي، فمستقبل سوريا ليس شأنًا سوريًا فحسب بل هو قضية إنسانية وإقليمية ودولية تستحق منا جميعًا الفهم والمتابعة، في هذه المقالة أسعى إلى تسليط الضوء على حقيقة أساسية وهي أن المرحلة الانتقالية في سوريا ليست مجرد عملية سلسة ومباشرة بل هي تواجه سلسلة من التحديات المتعددة والمعقدة والمتداخلة، هذه التحديات التي تمتد من إعادة بناء المؤسسات السياسية المتصدعة إلى معالجة الجراح العميقة في النسيج الاجتماعي تتطلب منا نظرة شاملة ومتعمقة لفهم طبيعتها وكيفية التعامل معها، هدفنا ليس فقط تشخيص هذه التحديات بل أيضًا التأكيد على ضرورة تضافر الجهود لإيجاد حلول مستدامة تضمن مستقبلًا أفضل لجميع السوريين، بناءً على هذه النظرة الشاملة سأتناول في هذه المقالة أبرز العقبات التي تعترض سبيل سوريا نحو مرحلة انتقالية ناجحة، بدءًا بالتحديات السياسية والمؤسساتية، مرورًا بالتحديات الأمنية والعسكرية والاقتصادية والإنسانية، وصولًا إلى التحديات الاجتماعية والثقافية التي لا تقل أهمية في بناء مستقبل مستقر ومزدهر، مع تركيز خاص ومفصل على التحديات الأمنية والعسكرية.

أولاً: التحديات السياسية والمؤسساتية:

إن التحديات السياسية والمؤسساتية هي حجر الزاوية المتعثر في بناء سوريا المستقبل، فعندما نتحدث عن المرحلة الانتقالية في أي بلد مزقته الصراعات فإن التحديات السياسية والمؤسساتية تقف في صدارة المشهد كحجر الزاوية الذي يجب تثبيته بإحكام قبل الشروع في أي بناء آخر، وفي حالة سوريا تتضاعف هذه التحديات وتتعقد بفعل سنوات طويلة من النزاع العميق والانقسام الحاد، فمن ناحية يمثل غياب الثقة وتآكلها بين الأطراف المتنازعة وبين الشعب والسلطة المستقبلية عائقًا كبيرًا أمام الحوار وبناء عقد اجتماعي جديد، ومن ناحية أخرى يواجه بناء مؤسسات شاملة ومستقلة وقادرة على تقديم الخدمات وإنفاذ القانون صعوبات جمة في ظل الانقسامات المستمرة، بالإضافة إلى ذلك يمثل التوافق على دستور يضمن حقوق الجميع ويعكس تطلعاتهم تحديًا صعبًا بسبب تباين الرؤى، وعلاوة على ذلك يواجه ضمان الظروف المناسبة لانتخابات شفافة ومقبولة في ظل عدم الاستقرار عقبات كبيرة، ولا شك أن تحقيق المصالحة ومعالجة انتهاكات حقوق الإنسان دون إثارة المزيد من الانقسام يمثل معضلة أخلاقية وسياسية، أخيرًا يعيق عامل التدخلات وتضارب مصالح القوى الخارجية العملية السياسية المستقلة، لمواجهة هذه التحديات تتطلب الضرورة إرادة سياسية حقيقية وتنازلات متبادلة وحوارًا وطنيًا شاملًا ودعمًا دوليًا حقيقيًا لضمان مستقبل أفضل لسوريا.

ثانياً: التحديات الاقتصادية والإنسانية:

إلى جانب التحديات السياسية والمؤسساتية تقف سوريا أمام واقع اقتصادي وإنساني كارثي خلفته سنوات الصراع، فمن جهة حجم الدمار هائل والاقتصاد منهار بينما يعاني الملايين من الفقر والنزوح والصدمات النفسية، لذلك تتطلب المرحلة الانتقالية جهودًا جبارة ليس فقط لإعادة بناء ما تهدّم، بل أيضًا لمعالجة الجراح الإنسانية العميقة ووضع أسس لتعافٍ اقتصادي مستدام يعود بالنفع على جميع السوريين، فإعادة الإعمار ونظرًا لحجم الدمار الهائل يتطلب تمويلًا ضخمًا وجهودًا طويلة الأمد، وبالتوازي مع ذلك يعد التعافي الاقتصادي من خلال تنشيط الاقتصاد وتوفير فرص العمل ومعالجة الفقر والتضخم ضروريًا لتحسين معيشة المواطنين، كما أن ضمان عودة آمنة وكريمة وتوفير الاحتياجات الأساسية للاجئين والنازحين يمثل تحديًا لوجستيًا وأمنيًا واقتصاديًا، علاوة على ذلك يمثل توفير الخدمات الأساسية مثل ضمان حصول السكان على المياه والكهرباء والرعاية الصحية والتعليم أولوية قصوى، ولا يقل أهمية عن ذلك معالجة الآثار النفسية والاجتماعية وتقديم الدعم النفسي والاجتماعي للمتضررين وترميم النسيج المجتمعي، أخيرًا يمثل توزيع الموارد بشكل عادل وضمان استفادة جميع المناطق والفئات من جهود الإغاثة وإعادة الإعمار لتحقيق العدالة تحديًا آخر، لمواجهة هذه التحديات يتطلب الأمر تضافر جهود الحكومة والمجتمع المدني والقطاع الخاص بدعم دولي سخي ومستدام لضمان استقرار شامل في سوريا.

ثالثاً: التحديات الاجتماعية والثقافية:

لا تقتصر آثار سنوات الصراع في سوريا على الجوانب السياسية والاقتصادية والأمنية فحسب بل امتدت لتطول النسيج الاجتماعي والثقافي للمجتمع، تاركة وراءها انقسامات عميقة وتحديات جمة في سبيل إعادة بناء الثقة والوئام وبناء هوية وطنية جامعة تحتضن جميع مكونات المجتمع السوري بتنوعه الثري، فمن الضروري معالجة الانقسامات الطائفية والإثنية والمناطقية من خلال المصارحة والتسامح، وبالإضافة إلى ذلك يجب تعزيز التسامح والمواطنة من خلال غرس قيم الاحترام المتبادل والتعايش وبناء ثقافة تحترم التنوع، كما تبرز ضرورة حماية حقوق الأقليات من خلال ضمان المساواة والانتماء لجميع المكونات الاجتماعية والثقافية، وفي صدارة هذه التحديات يأتي إصلاح النظام التعليمي من خلال تطوير مناهج تعزز قيم السلام والتسامح والمواطنة الفاعلة، ولا يمكن إغفال أهمية الحفاظ على التراث الثقافي وحماية وترميم واستعادة التراث كرمز لوحدة وهوية الوطن، لمواجهة هذه التحديات بمجملها تتطلب الضرورة رؤية بعيدة المدى وإستراتيجيات متكاملة بمشاركة جميع أفراد المجتمع لبناء مستقبل مستقر ومزدهر.

رابعاً: التحديات الأمنية والعسكرية:

لا يمكن الحديث عن أي مرحلة انتقالية حقيقية في سوريا دون معالجة جذرية للتحديات الأمنية والعسكرية التي خلفتها سنوات الصراع، فغياب الأمن والاستقرار لا يقوض فقط جهود إعادة الإعمار والتنمية الاقتصادية بل يهدد بتقويض أي تقدم سياسي أو اجتماعي، لذلك تمثل استعادة الدولة لاحتكار استخدام القوة وبناء منظومة أمنية موثوقة وفعالة أولوية قصوى، ولكنها تصطدم بسلسلة من العقبات المعقدة ومن أهمها:

  • تفكيك الجماعات المسلحة: معضلة الدمج والتسريح في بيئة مشحونة:

بعد سنوات من الحرب الأهلية برزت في سوريا عشرات بل مئات من الجماعات المسلحة المختلفة لكل منها أجندتها وولاءاتها ومصادر تمويلها، وبالتالي يمثل تفكيك هذه الجماعات ونزع سلاحها تحديًا هائلًا لا يقتصر الأمر على جمع الأسلحة بل يتعلق أيضًا بإيجاد حلول مستدامة لمقاتلي هذه الفصائل، فالسؤال المطروح هو: هل سيتم دمج بعضهم في مؤسسات الدولة الأمنية؟ وما هي المعايير والضمانات اللازمة لضمان ولائهم للدولة الجديدة؟ أم سيتم تسريحهم وتقديم برامج إعادة تأهيل ودمج في المجتمع المدني؟ في الواقع يحمل كل خيار من هذه الخيارات في طياته مخاطر وتحديات لوجستية واقتصادية واجتماعية كبيرة خاصة في ظل استمرار حالة عدم الثقة والتوتر بين مختلف الأطراف.

  • إعادة هيكلة الجيش والأجهزة الأمنية: بناء مؤسسات وطنية فوق الانتماءات:

إن بناء قوات مسلحة وأجهزة أمنية محايدة ومهنية تخضع للمساءلة المدنية يمثل حجر الزاوية في ضمان أمن الدولة والمواطنين في سوريا المستقبل، لتحقيق ذلك يتطلب الأمر عملية إعادة هيكلة شاملة تهدف إلى تجاوز الانتماءات الطائفية والإثنية والمناطقية التي ربما شابت هذه المؤسسات في الماضي، إذ يجب وضع معايير واضحة للالتحاق والترقية وتطبيق برامج تدريب حديثة تركز على احترام حقوق الإنسان وسيادة القانون، والأهم من ذلك هو إرساء آليات فعالة للمساءلة المدنية لضمان عدم إساءة استخدام السلطة وحماية المواطنين من أي تجاوزات، ومما لا شك فيه أن هذه العملية تتطلب وقتًا وجهدًا كبيرين بالإضافة إلى دعم فني ولوجستي من المجتمع الدولي.

  • مكافحة الإرهاب: خطر مستمر يتطلب إستراتيجية شاملة:

على الرغم من الانتكاسات التي تعرضت لها بعض التنظيمات المتطرفة لا يزال خطر الإرهاب قائمًا في سوريا والمنطقة، فالفوضى وعدم الاستقرار يوفران بيئة خصبة لتجنيد المقاتلين وإعادة تنظيم صفوفهم، ولمواجهة هذا الخطر بفعالية تتطلب الضرورة إستراتيجية شاملة لا تقتصر على العمليات العسكرية والأمنية بل تشمل أيضًا معالجة الأسباب الجذرية للتطرف مثل الفقر والبطالة والتهميش بالإضافة إلى تعزيز التعاون الإقليمي والدولي لتبادل المعلومات ومكافحة تدفق المقاتلين والتمويل.

  • انتشار السلاح: قنبلة موقوتة تهدد الاستقرار:

سنوات الصراع تركت سوريا غارقة في بحر من الأسلحة الخفيفة والمتوسطة والثقيلة، وبالتالي يمثل انتشار هذه الأسلحة في أيدي المدنيين تهديدًا مستمرًا للأمن والاستقرار، وللسيطرة على هذا الانتشار تتطلب الضرورة جهودًا مكثفة لجمع الأسلحة غير المرخصة وتطبيق قوانين صارمة بشأن حيازتها وتداولها، كما يتطلب الأمر معالجة الأسباب التي تدفع الناس إلى الاحتفاظ بالأسلحة، مثل الشعور بالخوف وعدم الثقة في قدرة الدولة على توفير الحماية.

  • إدارة الحدود وسد المنافذ: منع تدفق التهديدات:

تمثل الحدود السورية نقطة ضعف استغلها المقاتلون الأجانب ومهربو الأسلحة والجماعات المتطرفة على مدى سنوات الصراع، لذلك يُعد تأمين الحدود وإدارتها بشكل فعال أمرًا ضروريًا لمنع تدفق المقاتلين والأسلحة والمخدرات وحماية سيادة الدولة، ولتحقيق ذلك يتطلب الأمر تعزيز قدرات قوات حرس الحدود وتجهيزها بالتقنيات الحديثة، بالإضافة إلى التعاون مع الدول المجاورة لتبادل المعلومات وتنسيق الجهود في مكافحة التهريب والجريمة المنظمة.

إن التغلب على هذه التحديات الأمنية والعسكرية يتطلب مقاربة شاملة ومتكاملة تجمع بين العمل العسكري والأمني والقانوني والاقتصادي والاجتماعي، كما يستلزم بناء ثقة المواطنين في المؤسسات الأمنية الجديدة وضمان مساءلتها، بالإضافة إلى تعاون إقليمي ودولي فعال لدعم جهود تحقيق الاستقرار في سوريا والمنطقة، وإلا فإن الفشل في معالجة هذه التحديات سيؤدي حتمًا إلى تقويض أي فرصة لتحقيق سلام واستقرار دائمين في البلاد.

خاتمة:

خلاصة القول يتضح جليًا أن الطريق نحو الاستقرار والسلام الدائم في سوريا ليس مفروشًا بالورود، فطبيعة هذه التحديات المتداخلة تؤكد على حقيقة لا مفر منها وهي أن الحلول المنشودة يجب أن تكون شاملة ومتكاملة وتأخذ في الحسبان الأبعاد السياسية والأمنية والاقتصادية والإنسانية والاجتماعية والثقافية على حد سواء، وفي خضم هذه الصعاب تبرز حقيقة أخرى لا تقل أهمية وهي أن مستقبل سوريا ملك لجميع السوريين، لذلك لا يمكن تصور مرحلة انتقالية ناجحة ومستدامة دون مشاركة حقيقية وفعالة لجميع الأطراف السورية بمختلف أطيافهم وتوجهاتهم، فصوت كل مواطن سوري رجلًا كان أو امرأة، شابًا أو مسنًا، يجب أن يُسمع ويُؤخذ بعين الاعتبار في صياغة مستقبل البلاد، فالشمولية والمشاركة الواسعة ليست مجرد شعارات بل هي ضرورة حتمية لبناء توافق وطني عريض يرتكز عليه أي حل دائم، ونظرًا لتعقيد المشهد لا يمكن لسوريا أن تواجه هذه التحديات الهائلة بمفردها فهي تحتاج إلى الدعم الدولي الصادق والمسؤول الذي يمكن أن يمثل رافدًا أساسيًا لجهود تحقيق الاستقرار والسلام، ويجب أن يكون هذا الدعم متعدد الأوجه يشمل المساعدة الإنسانية والاقتصادية والفنية، بالإضافة إلى توفير مظلة سياسية دولية تسهل الحوار والمفاوضات بين الأطراف السورية، وعليه يجب على المجتمع الدولي أن يتحمل مسؤولياته الأخلاقية والقانونية تجاه الشعب السوري، وأن يعمل بتنسيق وتكامل لدعم مسار انتقالي سلمي وشامل، وعلى الرغم من جسامة التحديات وتعقيد المشهد يبقى الأمل معقودًا على قدرة السوريين على تجاوز هذه المحنة وبناء مستقبل أفضل لأجيالهم القادمة، فإرادة الحياة والتوق إلى السلام والاستقرار متجذرة بعمق في نفوس السوريين، وبالتكاتف والتعاون وبالاستفادة من الدروس المريرة التي خلفتها سنوات الصراع وبالإيمان بإمكانية بناء سوريا جديدة تحتضن جميع أبنائها بتنوعهم يمكن تحقيق فجر جديد يمحو آثار الماضي الأليم ويضيء دروب المستقبل بالأمل والازدهار، ختامًا إن الطريق طويل وشائك ولكنه ليس مستحيلاً إذا ما تضافرت الجهود وتوحدت الإرادات نحو هدف مشترك وهو خلق سوريا آمنة ومستقرة ومزدهرة لجميع أبنائها.

The post المرحلة الانتقالية في سوريا: تشخيص التحديات وسبل المواجهة appeared first on Defense Arabia.

إرسال تعليق

0تعليقات
إرسال تعليق (0)

#buttons=(Accept !) #days=(20)

Our website uses cookies to enhance your experience. Learn More
Accept !
To Top