البحرية الروسية والناتو: صراع البلطيق الخفي وأوراق الحرب الكبرى

0

دفاع العرب Defense Arabia

العقيد الركن م. ظافر مراد

يُخطيء من يظن أن الجهد الحربي الروسي ينحصر فقط في الحرب على أوكرانيا، فالعين على منطقة أخرى هامة جداً لها. تُطبِّق روسيا إستراتيجية “الإقتصاد بالقوى”، وهي مبدأ يعتمد على توزيع القوات بما يتناسب مع حجم المخاطر والتهديدات المعادية، ووفقاً للتأثيرات والإنجازات المطلوب تحقيقها، وفي الأماكن الضرورية ووفقاً للأولويات التي تقتضيها مراحل الحملة أو العملية العسكرية الكبرى، بشكلٍ يضمن هزيمة الأعداء، بينما يتم الإحتفاظ بإحتياطيات إستراتيجية لإستخدامها في حال تطور الحرب نحو وضع أسوأ، أو في حال إتسعت رقعتها لتشمل مواجهة شاملة مع حلف الناتو.

تعيش روسيا حالياً أصعب ظروف أمنية تهدد بقاءها كدولة عُظمى، فهي دخلت بمغامرة خطرة جداً تكاد تكون بمستوى حرب عالمية ثالثة، وقد تورِّطها بمواجهة شاملة مع الناتو، وعلى الرغم من الإنتصارات التي تحققها على الأرض ضد القوات الأوكرانية، وآخرها دخول مقاطعة “دنيبروبيتروفسك” التي تعتبر أهم منطقة صناعية في أوكرانيا، إلا أن عينها تبقى على بحر البلطيق وبالذات على “كاليننغراد” على ساحل هذا البحر.

تَعتبر روسيا بحر البلطيق مسرح المواجهة المرتقب في حال إندلاع الحرب الشاملة مع الناتو، فمنطقة كالينينغراد الروسية، تعتبر الحلقة الأضعف في البر الروسي، فهي شبه معزولة على ساحل بحر البلطيق، ويربطها بروسيا الأم الخط البحري من جهة خليج فنلندا، تبعد عن روسيا الأم براً مسافة 368 كم. مساحتها 15,100 كم2، وعدد سكانها نحو مليون شخص، وتعتبر كالينينغراد خنجراً مغروساً في قلب الناتو، وبنفس الوقت هي الخاصرة الروسية الأضعف في حال إندلعت الحرب مع هذا الحلف، فهي مهددة بالإحتلال كونها معزولة وبدون عمق استراتيجي، وستكون عرضة لهجمات برية من جهة بولندا، وربما من لتوانيا، ومن ينظر إلى الخريطة بنظرة خبير عسكري، يرى بشكلٍ واضح أن هذه المنطقة ستكون الهدف الأول في خطط الناتو في الحرب مع روسيا، وهذه الخريطة تُظهر ايضاً أهمية التحالف الإستراتيجي الروسي-البيلاروسي، حيث أن التكامل الجيوبوليتيكي بين البلدين يُقفل العديد من الثغرات ويُعطي عمقاً إستراتيجياً في جبهة الشمال.

عزَّز حلف الناتو تواجده في الجبهة الشمالية وأصبحت كافة الدول المحيطة ببحر البلطيق منتسبة إلى حلف الناتو بإستثناء روسيا، وجاء تاريخ إنتسابها كما يلي: الدانمارك (1949)، ألمانيا الغربية (1955)، ألمانيا متحدة (1990)، بولندا (1999)، أستونيا ولاتفيا ولتوانيا (2004)، فنلندا (2022) والسويد (2024). 

ومنذ العام 2017  أنشأ الحلف 4 مجموعات قتالية متعددة الجنسيات بحجم كتيبة لكل مجموعة في أستونيا ولاتفيا ولتوانيا وبولندا، بقيادة المملكة المتحدة وكندا وألمانيا والولايات المتحدة الأميركية، وفي أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا في شباط 2022، دعم الحلف مجموعات القتال بأربع مجموعات قتالية إضافية في بلغاريا والمجر ورومانيا وسلوفاكيا. ما عزز تواجد قواته على جناحه الشرقي من بحر البلطيق إلى البحر الأسود، وفي قمة مدريد في العام نفسه، إلتزم الحلف برفع حجم المجموعات القتالية الثمانية من حجم كتيبة إلى حجم لواء عندما تدعو الحاجة إلى ذلك.

تحمل المواجهة في بحر البلطيق طابع حساس وخطير بالنسبة للروس، لذلك تقوم روسيا بمناورات بشكلٍ دوري في هذا البحر وآخرها كان في 27 أيار وشاركت بها 20 سفينة و25 طائرة و3 آلاف جندي من إسطولي بحر الشمال وبحر البلطيق وقوات جوية وخاصة من مناطق أخرى، وحاكت هذه المناورة عملية إقفال بحر البلطيق وضرب بالصواريخ لأهداف معادية، وتُركز روسيا قوتها البحرية في تلك المنطقة التي تعتبرها منفذاً بحرياً أساسياً للبحرية الروسية، حيث ستذهب إلى الحرب الشاملة في حال إقفال الممرات عليها. بعدها بدأ حلف الناتو بمناورات هي الأكبر والأوسع في البلطيق، شاركت بها 17 دولة من ضمنها فنلندا والسويد اللتان تشاركان للمرة الأولى، وبدأت منذ 5 حزيران الحالي وستستمر لمدة إسبوعين، وعلى الرغم من عدم الإعلان عن طبيعة هذه المناورات، إلا أنها تحاكي سيناريو حرب مع روسيا وقطع الطريق على أسطول بحر البلطيق عند خليج فنلندا، ومنعه من الوصول إلى كالينينغراد في حال تقرَّر إحتلالها، وكذلك إقفال الطريق على أسطول بحر الشمال الروسي ومنعه من التدخل في بحر البلطيق من جهة الدانمارك.

تواجه روسيا مخاطر إندلاع الحرب الشاملة مع الناتو، وهي مخاطر جدية تضعها أمام تحدي تعدد الجبهات وإستخدام كميات هائلة من الصورايخ والمسيرات والطائرات الحربية والدبابات، والجدير ذكره هنا، وبالحديث عن الإقتصاد في القوى والتعبئة الإستراتيجية، فإن صناعات الأسلحة والصواريخ والقذائف في روسيا تسير بشكلٍ لم تعهده من قبل حتى أثناء الحرب العالمية الثانية، ويُلاحظ وفقاً لخبراء غربيين، أن روسيا تحاول عدم إستهلاك المجموعات الإستراتيجية من أسلحتها الحديثة، مثل دبابات أرماتا وطائرات سوخوي 57 والصواريخ فرط صوتية القصيرة والمتوسطة والبعيدة المدى، إضافةً إلى القطع البحرية والغواصات النووية، وهي تحتفظ بكم هائل جداً من المسيرات المصنعة في الداخل كإحتياط إستراتيجي، وكل ذلك يأتي في إطار الإستعداد لحرب محتملة مع الناتو.

مقابل إستعداد الجيش الروسي وتقدمه الواضح في الاراضي الأوكرانية، تنتظر كييف تصعيداً أعلى من دول الناتو الأوروبية، حيث تراهن القيادة الأوكرانية على وقوع إشتباك مباشر مع الروس يتسبب بدخول الناتو في الحرب، مقابل ذلك يُلاحظ فتور اميركي وعدم إهتمام بالوضع الأوكراني الحالي وتوقف عن تقديم الدعم لهذا البلد، بينما أعلنت الدول الأوروبية عن زيادة المساعدات لأوكرانيا بشكلٍ غير مسبوق، وعن إعادة تشكيل قواتها العسكرية بما يتناسب مع الخطر الداهم على الجبهة الشرقية، لذلك فإن معظم دول الناتو الاوروبية رفعت من قيمة ميزانياتها الدفاعية إلى بدرجة كبيرة، وركَّزت كل دولة على بناء قدراتها العسكرية التي تتناسب مع واقعها الجغرافي ومع التهديدات التي قد تتعرَّض لها. ولكن يكمن التحدي الكبير بإرادة القتال والقبول بالدخول في حرب شاملة مع روسيا، وبقدرة جيوش أوروبا على خوض القتال والمعارك ضد الجيش الروسي الذي أصبح متمرساً ومتكيفاً بشكلٍ كبير في ساحات المواجهة البرية والبحرية والجوية، إضافةً إلى حيازة هذا الجيش على قدرات صاروخية فرط صوتية تحمل رؤوس نووية لا يمكن التصدي له، مثل أوروشنيك وآفنغارد.

ومع إقرار الدول الاوروبية بضعف جيوشها وحاجتها لزيادة قدراتها العسكرية، أصبحت هذه الدول تؤمن أن الولايات المتحدة لم تعد حليفاً وثيقاً لها، وأن عليها الإعتماد على قدراتها الذاتية في لحظة تاريخية تعتبر الأخطر على أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. 

The post البحرية الروسية والناتو: صراع البلطيق الخفي وأوراق الحرب الكبرى appeared first on Defense Arabia.

إرسال تعليق

0تعليقات
إرسال تعليق (0)

#buttons=(Accept !) #days=(20)

Our website uses cookies to enhance your experience. Learn More
Accept !
To Top