دفاع العرب Defense Arabia
مثلت عملية “شبكة العنكبوت” الأوكرانية التي استهدفت قواعد جوية روسية بعيدة نقطة تحول محتملة في مسار الحرب ليس فقط بسبب حجم الأضرار المحتملة بل لما تحمله من تداعيات إستراتيجية وتكتيكية وجيوسياسية عميقة، هذا التحليل المتكامل يهدف إلى تفكيك أبعاد هذه العملية من خلفيتها وحتى دروسها المستفادة.
1- الخلفية الإستراتيجية للعملية
جاءت عملية “شبكة العنكبوت” في سياق ميداني وسياسي دقيق مما يرفع من أهميتها الإستراتيجية:
– السياق الزمني وعلاقته بالتطورات الميدانية:
تزامنت هذه العملية مع فترة تشهد فيها ركوداً نسبياً في خطوط المواجهة الأمامية حيث يعاني الطرفان من تحديات في تحقيق اختراقات كبرى، في ظل هذا الجمود يبدو أن أوكرانيا تسعى إلى تغيير ديناميكية الصراع من خلال نقل المعركة إلى العمق الروسي مما يفرض ضغوطاً جديدة على موسكو ويشتت جهودها العسكرية، كما أنها تأتي في وقت تتزايد فيه حاجة أوكرانيا لإظهار فعاليتها العسكرية للحفاظ على زخم الدعم الدولي.
– الأهداف السياسية والعسكرية:
أ- الأهداف العسكرية المباشرة:
تدمير أو إلحاق الضرر بالطائرات الحربية الروسية، خاصة تلك الإستراتيجية والقاذفات بعيدة المدى، يهدف إلى تقليل القدرة الهجومية الروسية على الأراضي الأوكرانية، وإضعاف سلاح الجو الروسي، وإجبار روسيا على سحب المزيد من أصولها الجوية من قواعدها الأمامية.
ب- الأهداف العسكرية غير المباشرة:
إجبار روسيا على إعادة توزيع مواردها الدفاعية الجوية من الجبهات أو مناطق أخرى إلى العمق لحماية أصولها الإستراتيجية، مما قد يخلق فجوات يمكن لأوكرانيا استغلالها.
ت- الأهداف السياسية:
إظهار قدرة أوكرانيا على الرد على الضربات الروسية بعمق، وتقويض الشعور بالأمان في روسيا، وتعزيز الروح المعنوية الأوكرانية. كما تهدف إلى بعث رسالة طمأنة لحلفاء كييف بأن الدعم المقدم لأوكرانيا يؤتي ثماره وأنها قادرة على الصمود وشن هجمات مؤثرة.
– الرسائل الرمزية عبر اختيار الأهداف البعيدة:
اختيار قواعد مثل “بيلايا” (القريبة من اليابان) و”أولينيا” (في الدائرة القطبية الشمالية) يحمل رسائل رمزية قوية:
أ- رسالة قوة ووصول:
يرسل رسالة واضحة بأن لا مكان آمن تمامًا في روسيا بالنسبة للطائرات الأوكرانية المسيرة، مهما كانت المسافة. هذا يوسع نطاق التهديد بشكل غير مسبوق.
ب- إحراج روسيا:
يسلط الضوء على فشل الدفاعات الجوية الروسية في حماية أصولها الإستراتيجية في عمق أراضيها، مما يمثل إحراجاً كبيراً للقيادة العسكرية والسياسية الروسية أمام شعبها والعالم.
ت- تغيير مفهوم العمق الإستراتيجي:
يفرض هذا التوسع في نطاق الهجمات إعادة تعريف لمفهوم “العمق الاستراتيجي” في روسيا، ويجعل الكرملين يعيد حساباته الأمنية.

2- الجوانب التكتيكية
تُظهر عملية “شبكة العنكبوت” مستوى عالٍ من التطور التكتيكي في التخطيط والتنفيذ:
– التقنيات المستخدمة في تنفيذ الضربات:
أ- أنواع الطائرات المسيرة:
من المرجح أن أوكرانيا استخدمت مزيجاً من الطائرات المسيرة المطورة محلياً (مثل UJ-22 Airborne، Lyut، Beaver) والتي تم تحسين مداها وقدرتها على التخفي، وربما تعديلات على طائرات استطلاع سوفيتية قديمة (مثل Tu-141 Strizh) التي تتميز بمدى طيران كبير. هذه الطائرات غالباً ما تكون مزودة بأنظمة توجيه متقدمة تعتمد على نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) مع آليات احتياطية.
ب- أنظمة التوجيه:
تعتمد هذه الطائرات على نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) لتحديد مساراتها بدقة، مع احتمال وجود نظم ملاحة بالقصور الذاتي (INS) كنظام احتياطي في حال التشويش على إشارات GPS. يُفترض أن المسارات يتم التخطيط لها مسبقاً لتجنب مناطق الدفاع الجوي الكثيفة والاستفادة من التضاريس.
ت- التنسيق بين وحدات الاستخبارات والتنفيذ:
نجاح عملية بهذا الحجم والتعقيد يتطلب تنسيقاً استخباراتياً دقيقاً لا يقل أهمية عن الجانب التقني.
ث- الاستخبارات:
يجب أن تكون أوكرانيا قد حصلت على معلومات دقيقة حول مواقع الطائرات، وأنواعها، وجداول صيانتها، وخطط الدفاع الجوي الروسية المحيطة بالقواعد. قد يكون هذا التنسيق شمل استخبارات الإشارات (SIGINT)، والاستخبارات البشرية (HUMINT)، واستخبارات المصادر المفتوحة (OSINT)، وربما الدعم من حلفاء خارجيين في جمع المعلومات.

ج- التخطيط والتنفيذ:
تطلب الأمر تخطيطاً دقيقاً للمسارات، وتوقيت الإطلاق، وربما موجات متعددة من الهجمات لتشبع الدفاعات الجوية. هذا يشير إلى قدرة عملياتية متطورة لدى القوات الخاصة أو وحدات الطائرات المسيرة الأوكرانية.
– التحديات اللوجستية في تنفيذ هجمات بعيدة المدى:
أ- المدى والوقود:
تتطلب هذه المسافات الهائلة (آلاف الأميال) طائرات مسيرة ذات كفاءة عالية في استهلاك الوقود وقدرة على حمل كميات كبيرة منه.
ب- التوجيه والملاحة:
الحفاظ على دقة التوجيه والملاحة لمسافات طويلة عبر أراضي العدو دون اكتشاف أو تشويش يمثل تحدياً هائلاً.
ت- الصيانة والإطلاق:
تتطلب هذه الطائرات نقاط إطلاق آمنة ومرافق صيانة لضمان جاهزيتها، وهو ما قد يكون صعباً في ظروف الحرب.
ث- المرونة:
القدرة على التكيف مع الظروف الجوية المتغيرة أو محاولات التشويش الروسية.
3- التحليل الجيوستراتيجي
لعملية “شبكة العنكبوت” تداعيات عميقة على التصورات الجيوستراتيجية للصراع:
– تأثير الضربات على التصور الروسي للأمن القومي:
أ- تآكل حاجز العمق الجغرافي:
لطالما اعتمدت روسيا على عمقها الجغرافي كحاجز طبيعي ضد التهديدات الخارجية. هذه العملية تكسر هذا الحاجز وتثبت أن العمق لم يعد ضمانة للأمن، مما يثير قلقاً جدياً حول أمن الأراضي الروسية.
ب- الضغط على القيادة:
تضع هذه الهجمات ضغطاً هائلاً على القيادة الروسية لإظهار قدرتها على حماية البلاد، وقد تثير تساؤلات داخل النخبة العسكرية والسياسية حول فعالية الإستراتيجيات الحالية.
ت- تكاليف الدفاع:
ستجبر روسيا على تخصيص موارد أكبر وأكثر تطوراً للدفاع الجوي في عمق البلاد، مما يحول الموارد عن الجبهة أو عن أولويات عسكرية أخرى.
– تداعيات توسيع نطاق الصراع جغرافياً:
أ- مخاطر التصعيد:
توسيع نطاق الصراع ليشمل العمق الروسي يزيد بشكل كبير من مخاطر التصعيد، حيث قد تشعر روسيا بأنها مجبرة على الرد بقوة أكبر وربما بوسائل غير تقليدية.
ب- تغيير ديناميكية الدعم الدولي:
قد ينظر بعض الحلفاء إلى توسيع النطاق كعامل خطر يزيد من احتمالية المواجهة المباشرة مع روسيا، بينما قد يرى آخرون فيه مبرراً لزيادة الدعم لأوكرانيا لمساعدتها على ردع روسيا.
– ردود الفعل المحتملة من الجانب الروسي:
أ- حملة انتقامية مكثفة:
من المتوقع أن تشن روسيا حملة جوية وصاروخية انتقامية واسعة النطاق ضد أوكرانيا، تستهدف البنية التحتية الحيوية، المدن، ومراكز القيادة.
ب- زيادة التهديدات النووية:
قد تلجأ روسيا إلى زيادة حدة خطابها النووي، أو حتى إجراء مناورات نووية، في محاولة لردع أوكرانيا وحلفائها.
ت- تعزيز الدفاعات:
ستعمل روسيا على الفور على تعزيز دفاعاتها الجوية في المناطق الإستراتيجية ونقل الأصول الأكثر قيمة إلى مواقع أكثر أمانًا أو توزيعها بشكل أوسع.
4- القراءة المستقبلية
– تحمل عملية “شبكة العنكبوت” مؤشرات مهمة لمستقبل الحرب:
احتمالية تكرار مثل هذه العمليات: بناءً على النجاح الظاهري لهذه العملية والرسائل التي تبعثها فإن احتمالية تكرار مثل هذه الهجمات عالية جداً، قد تسعى أوكرانيا لتطوير قدراتها بشكل أكبر وشن هجمات أكثر تكراراً لفرض ضغط مستمر على روسيا.
– تأثيرها على مسار الحرب على المدى المتوسط:
أ- الحفاظ على المبادرة:
قد تساعد أوكرانيا في الحفاظ على نوع من “المبادرة الاستراتيجية” حتى في ظل الجمود على الجبهات، من خلال إبقاء روسيا في حالة تأهب وقلق بشأن أمن عمقها.
ب- استنزاف الموارد الروسية:
على المدى المتوسط، قد يؤدي استنزاف موارد الدفاع الجوي الروسية نتيجة لتعزيز حماية العمق إلى إضعاف القدرات الروسية على الجبهة أو في مناطق أخرى.
ت- الضغط على الاقتصاد الروسي: استهداف الأصول العسكرية الحيوية قد يزيد من التكاليف الاقتصادية للحرب على روسيا.
– تداعياتها على موازين القوى الإقليمية والدولية:
أ- صعود أوكرانيا كقوة عسكرية متطورة:
تثبت أوكرانيا أنها ليست مجرد متلقٍ للمساعدات، بل لاعب عسكري قادر على الابتكار والتنفيذ، مما يعزز مكانتها الإقليمية.
ب- تحدي النموذج العسكري الروسي:
تلقي هذه الهجمات بظلال من الشك على الفعالية الشاملة للجيش الروسي وقدرته على حماية أراضيه، مما قد يؤثر على موازين القوى في أوروبا الشرقية.
ت- ثقة الحلفاء في تكنولوجيا الطائرات المسيرة:
تعزز العملية ثقة الحلفاء في فعالية الطائرات المسيرة كأداة هجومية إستراتيجية، مما قد يؤثر على الإنفاق الدفاعي والتعاون التكنولوجي.

5- الدروس المستفادة
قدمت عملية “شبكة العنكبوت” دروساً قيمة على عدة مستويات:
– الابتكارات العسكرية التي ظهرت خلال العملية:
أ- قدرات الطائرات المسيرة بعيدة المدى:
أظهرت العملية أن الطائرات المسيرة، حتى تلك التي قد لا تكون “شبحية” بالكامل، يمكن أن تكون فعالة للغاية في الوصول إلى أهداف بعيدة جداً عندما يتم استخدامها بذكاء.
ب- التخطيط العملياتي المعقد:
يؤكد نجاح العملية على أهمية التخطيط العملياتي المعقد، بما في ذلك اختيار المسارات، التوقيت، وربما التنسيق بين موجات هجوم متعددة.
ت- الدمج بين الاستخبارات والتكنولوجيا:
يبرز أهمية الدمج الفعال بين القدرات الاستخباراتية المتطورة (للتحديد الدقيق للأهداف ونقاط الضعف في الدفاعات) والتكنولوجيا الهجومية المتاحة.
– انعكاساتها على مفاهيم الدفاع الجوي:
أ- الحاجة إلى دفاع جوي متعدد الطبقات وشامل:
تبرز العملية أن الدفاع الجوي يجب أن يكون شاملاً ولا يركز فقط على خطوط المواجهة أو المدن الكبرى، بل يجب أن يغطي العمق الإستراتيجي بفعالية ضد التهديدات منخفضة الارتفاع وبطيئة الحركة.
ب- تحديات الكشف عن الطائرات المسيرة الصغيرة:
تظهر الصعوبة الكبيرة في كشف واعتراض الطائرات المسيرة الصغيرة نسبياً التي تحلق على ارتفاعات منخفضة لمسافات طويلة، مما يستدعي تطوير تِقْنيَّات كشف واعتراض جديدة.
ت- أهمية الحرب الإلكترونية:
يسلط الضوء على أهمية تطوير قدرات الحرب الإلكترونية الفعالة للتشويش على الطائرات المسيرة وتوجيهها.
– تطبيقاتها المحتملة في صراعات أخرى:
أ- نموذج للصراعات المستقبلية:
يمكن أن تكون “شبكة العنكبوت” نموذجاً لعمليات مماثلة في صراعات مستقبلية، حيث قد تلجأ الدول الأصغر إلى استخدام الطائرات المسيرة لاستهداف العمق الإستراتيجي لخصومها الأقوى.
ب- انتشار التكنولوجيا:
قد يدفع هذا النجاح إلى تسريع انتشار وتطوير تكنولوجيا الطائرات المسيرة بعيدة المدى في مختلف أنحاء العالم، مما يغير من طبيعة الحروب الحديثة.
في الختام عملية “شبكة العنكبوت” ليست مجرد حادثة عسكرية عابرة بل هي مؤشر على تطور إستراتيجي وتكتيكي عميق في الحرب الأوكرانية الروسية مع تداعيات بعيدة المدى على موازين القوى ومفاهيم الأمن في المنطقة والعالم.
The post عملية “شبكة العنكبوت” وتداعياتها الاستراتيجية على الحرب الروسية الأوكرانية appeared first on Defense Arabia.