الخبرة القتالية.. الندوب التي تصنع الإنتصارات

0

دفاع العرب Defense Arabia

العقيد الركن م. ظافر مراد

تُصدر عدة مراكز بحوث ومؤسسات أمنية تقديرات حول ترتيب القوة عند الجيوش على المستوى العالمي، ويتم الأخذ بعين الإعتبار العديد من العوامل، أبرزها كمية ونوعية الأسلحة ومدى تطورها وحداثتها، وعديد العناصر ومستوى التدريب وتوزيع القوات وإنتشارها في العالم، إضافةً إلى عوامل جيوستراتيجية وجيوسياسية محيطة ومؤثرة بهذه الجيوش، مثل الموقع والطبيعة الجغرافية والتحالفات العسكرية. تُهمل هذه التصنيفات عوامل أخرى قد تكون الأكثر أهمية في تحقيق النصر على أرض الواقع، ومن أبرز هذه العوامل الخبرة القتالية التي تصقل المهارات وتقوي غريزة الحياة عند الجندي والرتيب والضابط، فالجيش الذي لم يخض قتالاً حقيقيًّا لا يعرف نفسه ولا يعرف عدوه، وما التدريب إلا خطوة متواضعة لتعلم الآداء القتالي، ولكنه لا يُقارن بجحيم المعركة، فحين يدخل الجيش نار القتال يتعلّم المعنى الحقيقي للخوف، والصدمة، والمباغتة، والخسارة، والخيانة، بل وحتى الرحمة… تلك خبرة لا تُكتسب عبر المحاضرات ولا عبر المناورات، بل تُغرس في الروح غرساً من خلال الكثير من الخسارات التي تترك ندوباً في ذاكرة الجيوش لا يمكن نسيانها.

الجيوش العظمى في التاريخ لم تكن تعتمد فقط على العقيدة أو التكنولوجيا العسكرية، بل على الجنود الذين خبروا رائحة الدم، وحرارة النار، وصوت الموت وهو يمرّ بجوارهم، والخبرة القتالية تميّز بين الجندي الذي يطلق النار لأنه تلقّى تدريبًا، والجندي الذي يطلق النار لأنه يعرف قيمة الطلقة وأين ومتى ولماذا تُطلق. والخبرة تميِّز أيضاً بين القائد الذي يُعطي الأوامر ويتَّخذ القرار لانه يُطبِّق مفاهيم عسكرية أكاديمية تعلَّمها في قاعات المحاضرات، أو مارسها في المناورات التدريبية واستخدام المشبِّهات، والقائد الذي يأمر ويتَّخذ قراره لأنه خبير في المواقف وإستيعاب تفاصيل المعركة ومتطلباتها لحظة بلحظة، ويعرف أن الإبتكار ومفاجأة العدو والجرأة المحسوبة هي مفتاح الصمود والنصر، فالتدريب والمناورات لا تُخرج من الإنسان جانبه الوحشي أو النبيل، فقط القتال الحقيقي يفعل ذلك، عندما يتعرض لإحتمالات الموت في كل خطوة، ويطلق الرصاص ليقتل ويزيد من فرص حياته، فالمعارك مليئة بالغموض والمفاجآت حيث يتنافس الحظ مع القدر والحياة مع الموت، فالحظ يقف دائماً إلى جانب الشجعان، بينما يخطف الموت المتردد والجبان.

ينطبق هذا الشيء على الوحدات الكبرى وعلى الجيوش، فالوحدات التي خبرت القتال وخاضته بقوة وبعنف ولوقتٍ طويل، تصبح قدرتها على القتال والتكيف مع أي معركة أو حرب مستقبلية، أعلى بكثير من قدرة وحدات مماثلة لها في الجيش ذاته، كما أن الجيوش التي خاضت حروباً تحتفظ لنفسها بكثير من الأسرار والدروس والعبر في كل عثرة وفي كل نجاح حققته، فالخبرة القتالية ليست مجرد مهارة فردية، بل هي ذاكرة مؤسساتية تُبنى عبر تراكم المواقف والتجارب، والجيوش الخبيرة تملك القدرة على اتخاذ قرارات حاسمة في الظروف الرمادية التي تعجز فيها النماذج النظرية، وينسحب  هذا الشيء على كافة مكونات هذه الجيوش من قوات برية وبحرية وجوية، وتعتبر القوات الخاصة هي الأكثر تفاعلاً وتأثُّراً بالخبرات المكتسبة، كونها تعيش اللحظات الحرجة وتقترب من الخطر وتلامسه في كافة مراحل مهامها، حيث تكون التوقيتات والمسافات من أهم الإعتبارات وأكثرها حراجة.

يمكن أن نصنِّف الجيوش وفقاً للخبرة القتالية لعدة فئات، والفئة الأولى هي “الجيوش المجروحة-Scarred Armies” وهي تلك التي خاضت حروباً كبرى طويلة ضمن سلسلة متواصلة أو متقطعة، وطوَّرت عقيدتها القتالية بالدم والنار، سماتها سمعة تاريخية لا تٌضاهى، ذاكرة قتالية مؤسساتية، ضباط وجنود ميدانيون خاضوا معارك حقيقية، عقيدة عسكرية متميزة قادرة على التكيف السريع مع الواقع، قدرة على إمتصاص الصدمة وإستعادة المبادرة. ومن ابرز هذه الجيوش الجيش الروسي (خبرات في الشيشان، جورجيا، سوريا، أوكرانيا)

 الجيش الأميركي (فيتنام، أفغانستان، العراق إضافةً إلى عمليات خاصة)، الجيش الإسرائيلي ( حروب متكررة على عدة جبهات منذ العام 1948).

الفئة الثانية هي “الجيوش الميدانية- Field-Tested Armies” وهي جيوش خاضت معارك محدودة واظهرت كفاءة جيدة، سماتها خبرات مكتسبة عند بعض وحداتها، إشتباك مع العدو في بيئات محدودة، تمتلك تكنولوجيا عسكرية وتعتمد على تطبيق النظريات ولا تمتلك إبداع المعركة. من أبرز هذه الجيوش، الجيش البريطاني (جزر فوكلاند، العراق)، الجيش الفرنسي( عمليات الساحل الافريقي)، الجيش التركي (قتال محدود في سوريا والعراق وليبيا).

الفئة الثالثة هي “الجيوش المحاكية-Simulated Armies”، وهي جيوش حديثة التدريب والتنظيم والتسليح، ولكنها لا تمتلك الخبرة القتالية ولم تعش صدمة الحرب، سماتها إلتزام بالتدريب والتعليم، إكتساب اسلحة حديثة، عقيدة عسكرية تقليدية غالباً مستوردة، آداء غير مضمون في ظروف حرب حقيقية. ومن الأمثلة على هذه الجيوش، الجيش الألماني، الجيش الياباني.

يبقى هناك جيوش الفئة الرابعة وهي “الجيوش التمثيلية – Ceremonial Armies” ليست فعلياً بمستوى الجيوش الحديثة، وهي تؤدي مهام داخلية أكثر من إهتمامها بمهام الدفاع عن الوطن، سماتها بعض أو كل ما يلي: ضعف القدرات المادية، ضعف الروح القتالية، خلل في التجهيزات أو في التنظيم، فساد إداري، إرباك وغموض في العقيدة القتالية، وهنا نتحفظ عن ذكر أمثلة عن هذه الجيوش ولكن نؤكِّد أن هذا التصنيف يعني بالجاهزية الميدانية وخبرة القتال فقط، وهناك فرص لتنتقل هذه الجيوش من فئة إلى أخرى عند توافر الظروف التي تسمح لها باكتساب الخبرات القتالية أو بتغيير طبيعتها التنظيمية والمؤسساتية.

في زمن تزوير الحقائق وتحريف الروايات، حيث تفتعل البطولات عبر السياسة والإعلام، يبقى المقاتل المجروح في جسده أو في ضميره، آخر شكل من أشكال الحقيقة في هذا العالم، فالذي خاض القتال ونجا بجسده أو لم ينجُ، هو الشاهد الأول على المعنى الحقيقي للمعركة، للقوة، للضعف، وهو الوحيد الذي يحتفظ بضميره ووجدانه بالنسخة الأصلية من الحرب غير المحرَّفة.

The post الخبرة القتالية.. الندوب التي تصنع الإنتصارات appeared first on Defense Arabia.

إرسال تعليق

0تعليقات
إرسال تعليق (0)

#buttons=(Accept !) #days=(20)

Our website uses cookies to enhance your experience. Learn More
Accept !
To Top