دفاع العرب Defense Arabia
كانت المواجهات البحرية ولا تزال، من أهم مفاصل الحروب التي تحسم الصراعات، فهناك الكثير من المعارك البحرية عبر التاريخ كان لها تأثيراً كبيراً على مجريات الحروب، وعلى الرغم من أن القوة البحرية لا زالت تُقاس بعدد الغواصات وحاملات الطائرات وقدراتها القتالية، وبحجم البوارج وسمك دروعها ومدى مدافعها، لكنّ المشهد تغيّر، لم يعد البحر ملعب الحديد والفولاذ، بل أصبح مختبراً مفتوحاً للإبداع وتقنيات التكنولوجيا والذكاء الإصطناعي، واصبحت المعركة البحرية شبيهه بالحروب غير المتماثلة، وأصبح الدفاع البحري عبارة عن شبكة متعددة الطبقات من الالغام الذكية والزوارق الإنتحارية المسيرة، والتي تجعل من البحار والممرات المائية بيئة غامضة يصعب السيطرة عليها واكتشاف مخاطرها، هذه المعادلة تنسف عقائد البحار التقليدية التي رسمها ألفرد ماهان، وتفتح الباب أمام دول صغيرة وضعيفة القدرات، لكنها قد تكون أعظم ابتكارًا، وقادرة على تهديد أعتى الأساطيل.

إنتقل مفهوم الدفاع البحري من المفهوم الخامد إلى المفهوم الحديث النشط والمتحرك والذكي، فهناك قدرات وعناصر قتال حديثة غيَّرت مفاهيم المواجهات من خلال استخدام جهازية منخفضة التكلفة تؤمن القدرة على شلّ سفن بمليارات الدولارات، مع ميزة المناورة والاقتراب بسرعات عالية في بيئات شديدة الخطورة، وكان التحول من إعتماد الدفاع البحري على “سلاح انتظار” ليصبح “سلاح مطاردة” قادر على إعادة التموضع أو تعقّب أهدافه ضمن مسرح العمليات، هو الاساس في قلب هذه المفاهيم، فالبحر لم يعد يُدار كخريطة ساكنة، بل كـشبكة ديناميكية متغيرة تتحرك وتتكيف مع التهديدات، وهذا التغيير الكبير في استراتيجيات القتال البحري وتكتيكات وأساليب الإستهداف، هو مسألة هامة جداً لكافة الدول الشاطئية التي يجب عليها أن تتكيف مع هذه المتغيرات، وأن تكتسب الوعي الإستراتيجي لإدارة بيئة الدفاع البحري لديها، والتي تفرض عليها حيازة القدرات الحديثة والخبرات الضرورية لتكوِّن قدرات رادعة تحمي مصالحها وحدودها البحرية.
لم تعد الزوارق المسيرة USVs (Unmanned Surface Vessels) مجرد نماذج تجريبية، بل اصبحت سلاحاً يتحدى الأعداء بقدرات دفاعية وهجومية متقدمة، حيث ظهرت نماذج عديدة طورتها شركات متعددة منها:
- RAFAEL الإسرائيلية التي طورت الزورق Protector في العام 2012، وهو أول زورق قتالي مستقل وغير مأهول، يتم توجيهه عن بعد، ومزود ببرج قد يحمل يحمل رشاش ثقيل أو منصة صواريخ، إضافةً إلى أنظمة إستشعار عالية الدقة، قادر على تنفيذ مهام متعددة.

- LEIDOS لييدوس الأميركية صنَّعت نوعين من الزوارق المسيرة لإستخدامات متعددة، الزورق Sea Hunter ، وهو أول زورق غير مأهول يستخدم الذكاء الإصطناعي، دخل الخدمة عام 2019، مهمته إستخباراتية ولكنه في الاساس مصمم للحرب ضد الغواصات المعادية وكشف مواقعها في الأعماق وتتبعها، يستطيع قطع آلاف الأميال ويعمل أيضاً كناقل إتصالات بين عدة مواقع وقطع بحرية. والزورق Sea Hawk الذي دخل الخدمة عام 2021، أكبر من الزورق Sea Hunter، ولديه نفس المهام مع قدرة أكبر على جمع المعلومات وملاحقة الأهداف وإستقلالية البقاء في الماء.

- Hanwha Systems (كوريا الجنوبية) – تنتج قدرات متقدمة لمهام الإستطلاع وإزالة الألغام، بقدرات ذاتية أو تحكم عن بعد. لديها المركبة “AUV” البحرية ذاتية القيادة والتي تبحر لمسح الألغام المنتشرة في المناطق الساحلية أو قاع البحر. تؤدي مهمتها تلقائيًا باتباع مسارات محددة مسبقًا. تتضمن أجهزة الاستشعار المثبتة على المركبة كاميرا بصرية، وسونار مسح جانبي، وكاميرا فوق صوتية، وغيرها، مما يتيح الكشف والتعرف بوضوح على الأجسام تحت الماء في البحر العكر المحيط بشبه الجزيرة الكورية.

إضافةً إلى المركبات غير المأهولة، ظهر جيل جديد من الألغام الذكية التي تستطيع تشكيل بيئة دفاعية متحركة عالية الديناميكية، والتي من خلالها يمكن مطاردة ومهاجمة أكبر القطع البحرية وليس إنتظار إلتصاقها باللغم أو الإقتراب منه. وفي بيئة القتال البحري الحديث، لم يعد البحر مجرّد مسرح مفتوح للصواريخ والقطع السطحية والغواصات، بل تحوّل إلى فضاء مفخخ تُدار معاركه بأدوات غير تقليدية، الألغام الذكية هي النموذج الأبرز لهذا التحوّل: سلاح رخيص، خفي، وفاعل في أصعب الظروف العملياتية.
تحوَّل مفهوم اللغم البحري من اللغم الساكن إلى اللغم الهجومي، فالألغام الذكية تطوّرت لتصبح منصّات هجومية مستقلة، تمتلك أجهزة استشعار معقّدة (صوتية، مغناطيسية، ضغطية)، قادرة على تمييز الهدف من خلال بصمته الصوتية والمغناطيسية، ثم اتخاذ القرار بالهجوم، وفي بعض النماذج، يتحوّل اللغم إلى طوربيد ساكن، لا يكتفي بالانتظار بل ينطلق نحو السفينة أو الغواصة عند تحديد الهدف. ومن ابرز الخصائص التقنية للألغام الذكية ما يلي:
- قدرة التعرّف على الهدف (Target Recognition):من خلال أنظمة قادرة على تحديد نوع السفينة أو الغواصة المستهدفة، وتمييز القطع الصديقة من المعادية عبر بصمة إلكترونية.
- ميزة التخفي (Stealth): هياكل مصنوعة من مواد تقلّل البصمة الصوتية وتجعل كشفها بالسونار أمرًا صعبًا.
- التفعيل عبر البرمجة الذكية: يمكن ضبطها لتنفجر عند مرور نوع محدّد من الأهداف، أو بعد عدد معيّن من السفن، لزيادة الفاعلية العملياتية.
- القدرة الحركية الذاتية: بعض الألغام مجهّزة بمحركات دفع صغيرة أو كبسولات طوربيدية، تنشط تلقائياً أو على أمر لمطاردة أهداف معينة وتفجيرها.
هناك العديد من الدول التي تعمل بسرية على نماذج الألغام الذكية، ومن أبرز النماذج العالمية:
- الولايات المتحدة: لدى البحرية الأمريكية نوعان من الألغام قيد الخدمة، عائلة الألغام (Quick strike) والألغام المتنقلة التي تطلقها الغواصات (SLMM). ألغام كويك سترايك (Mk 62 وMk 63) هي قنابل متعددة الأغراض مُعدّلة، زنة 500 رطل و1000 رطل على التوالي، تُزرع بواسطة الطائرات في المياه الضحلة. أما لغم Mk 65 فهو لغم زنة 2000 رطل، ويستخدم غلافًا رقيق الجدار بدلاً من جسم القنبلة. أما ألغام (SLMM) فهي تنشر بطريقة سرية بواسطة غواصات داخل مياه الاعداء. وهي ألغام مياه ضحلة يتكون من هيكل طوربيد Mk 37 مُعدّل، ورأس حربي Mk 13، وجهاز كشف الأهداف.


- روسيا: PMK-2، هو لغم مضاد للغواصات، لا تتوافر عنه معلومات دقيقة، ولكنه يعتبر من أخطر الألغام حالياً، يستخدم نظام كشف متطور قائم على السونار النشط والسلبي لإكتشاف الغواصات وتحديد هويتها، يحتوي أيضاً على تدابير مضادة إلكترونية، ينطلق من القاع من عمق قد يصل إلى 2 كلم، برأسه الحربي الذي يبلغ وزنه حوالي 130 كلغ، ويهاجم السفن والغواصات المعادية بشكلٍ مفاجيء كون إكتشافه صعب ويتطلب عملية معقدة. MDM-3 هو أيضاً لغم روسي حديث، ولكنه مخصص لتدمير السفن الحربية الكبيرة وزوارق الإنزال، حجم رأسه المتفجر حوالي 300 كلغ، يزرع في قاع البحر على عمق يصل إلى الف متر.

- تركيا: MALAMAN، وهو لغم ذكي متعدد الاستخدامات وقابل للتطوير، مصمم للاستخدام في قاع البحر من منصات متنوعة، بما في ذلك الطائرات والسفن السطحية والغواصات والمنصات غير المأهولة. يتميز بميزات متقدمة مثل الحماية الخفية البصرية والصوتية، مما يجعله مناسبًا لمختلف هياكل قاع البحر، يتميز هذا اللغم بمرونة استثنائية،

- الصين: تمتلك الصين مجموعة واسعة من الالغام البحرية، أحدثها اللغم القابل للتحكم عن بعد EM-53، والغام SLMMs التي تطلق من الغواصات، ونظام Rocket/Rising mine وهو عبارة عن منصة مخفية تطلق صاروخ نحو الهدف المعادي عند إكتشافه ووصوله إلى منطقة الإستهداف.

تكمن خطورة الألغام الذكية في كونها سلاحًا مثالياً للحروب غير المتماثلة، فبواسطتها تسنطيع دول صغيرة تعطيل العبور في الممرات الإستراتيجية مثل هرمز وباب المندب ومضيق تايوان وممر مالاكا، وبالتالي تهديد سلاسل الإمداد والتوريد العالمية، والجدير ذكره هنا أن روسيا وعلى الرغم من كونها دولة شبه محاصرة بحرياً، إلا أنها تمتلك العدد الاكبر من الالغام البحرية (حوالي 125 ألف لغم بحري)، تليها الصين (حوالي 100 الف لغم بحري )لا وهذه الالغام الحديثة تهدد القطع البحرية الإستراتيجية مثل الغواصات النووية وحاملات الطائرات، وتشكل ورقة ضغط جيوستراتيجية قوية ورخيصة الكلفة.
لن تعود سيناريوهات الحروب البحرية المستقبلية كما عهدناها سابقاً، بل ستشهد أساليباً وصوراً مختلفة تماماً، حيث سيصبح حصار الموانئ الحيوية إستراتيجية بحرية أساسية في المواجهة، من خلال دمج الألغام الذكية والزوارق الانتحارية لإغلاق الممرات الهامة، وستُعتمد الكمائن البحرية عن طريق إستدراج المجموعات البحرية والاساطيل نحو بقعة قتل مؤلفة من الألغام النشطة والذكية، وسيتم قطع خطوط الإمداد واستهداف السفن التجارية والعسكرية لإحداث ضغط وشلل إقتصادي عالمي، وما نشاهده في البحر الاحمر ما هو إلا نموذج بسيط عن ما هو قادم.
لقد غيرت منظومات الدفاع والإستهداف بواسطة الزوارق المسيرة والالغام العقائد البحرية عند الدول، فالصين تستعد لبناء جدار عظيم ولكن بحري لحماية مصالحها، وروسيا خططت لإقفال ممرات هامة في بحر البلطيق والبحر الأسود في حال نشوب حرب شاملة مع حلف الناتو، وإيران تهدد بإقفال مضيق هرمز في حال تطور النزاع معها إلى درجة تهدد بقاء النظام فيها، كل ذلك يوجه الإهتمام نحو إستراتيجيات جديدة في الدفاع البحري، وفي حماية الممرات الدولية الهامة، ولا يقتصر الموضوع على الدول العُظمى، بل هو واجب على كل دولة يُلزمها موقعها الجغرافي البحري أن تأخذ في الإعتبار كل هذه التهديدات وأن تستعد لها، فالقوة البحرية مهددة في صميم مفاهيمها وإستراتيجياتها، لدرجة قد تفاجيء الجميع عند حصول أي مواجهة بحرية محتملة.
في الحقيقة نحن اليوم نعيش مرحلة ما بعد ماهان، ماهان كان يرى أن السيطرة على البحر تحتاج لأسطول ضخم يفرض إرادته. لكن القرن الحادي والعشرين يعلّمنا أن السيطرة الحقيقية تأتي من الذكاء، المرونة، والشبكات الدفاعية والهجومية المتكاملة. اليوم لا يفوز من يملك الحديد الأثقل، بل من يملك الخوارزمية الأذكى، والعقل الاستراتيجي الذي يدير البحر كساحة مواجهة حية، تتحرك وتهاجم، لا كحاجز دفاعي ينتظر الاقتحام، اللعبة تغيّرت، ومن لم يُدرك ذلك، فسيبقى يقاتل أشباح الماضي بأساطيل لا تصلح لمعارك المستقبل.
The post مأزق الأساطيل الكبرى والفكر الإستراتيجي البحري التقليدي appeared first on Defense Arabia.