الإعلام أثناء الحروب وانعكاسه على حرب غزة

0

دفاع العرب Defense Arabia

العميد م. ناجي ملاعب

لعبت وسائل الإعلام بجميع قنواتها (الصحف، القنوات التلفزيونية، الاذاعة، وسائل التواصل الاجتماعي، …إلخ)، دوراً طليعياً في العديد من الحروب، واستُخدمت في الحرب النفسية بين المتقاتلين، بحيث شكلت أداة بارزة في إدارة الأزمات والصراعات الدولية. وسمحت، من ناحية أخرى من خلال التغطية المباشرة للأحداث والتقاط الصور من نقل الحقيقة بصورة واضحة وموضوعية بعيدة عن التزييف والتشويه، بالرغم من وجود بعض الوسائل التي تعمل وفق أجندات معينة لخلط الأوراق وتوجيه الرأي العام وفق خطط موضوعة مسبقاً لتشويه الحقائق وتزييفها، ونشر المعلومات المغلوطة، فهي تعمل كسلاح لطرف معين ضد الطرف الاخر، وبذلك تتشكل الحروب الإعلامية.

في المجتمع المعاصر فقط  يمكن الوصول إلى وعي المجتمع الخصم مباشرة من خلال الإعلام، الصور التي يوفرها هي الوسائل الأكثر فاعلية لفعل ذلك؛ لذلك فإن جميع جوانب الحرب الحديثة، ومن بينها اعدادها وأهدافها ومجرياتها ومنطقها التنفيذي يجب أن تأخذ بالحسبان اللوجستية الإعلامية، يشير د. ماجد أبودية الى أن: ” ميدان القتال ليس ميدانياً، إنه موجود داخل أرواح الناس، الحرب تدور ليس في ميدان القتال، وإنما في رؤوس الناس” الحرب الجديدة أصبحت حرباً على الوعي، حرب الروايات، وحرب الأفكار، حرب على القلوب، وعلى العقول، أو على حد قول السير لورانس فريدمان هذه الحروب ” مقررة في البعد المعرفي، وليس في البعد المادي”.

ويحذر ناعومي تشومسكي من اللجوء الى اللعب بالمفردات العاطفية: “إن استثارة العاطفة بدلاً من الفكر، هي طريقة تقليدية تستخدم لتعطيل التحليل المنطقي، وبالتالي الحس النقدي للأشخاص. كما أن استعمال المفردات العاطفية يسمح بالمرور للاوعي حتى يتم زرع أفكار به، ورغبات ومخاوف ونزعات أو سلوكيات”.

التأثير الفلسطيني على وسائل الاعلام

ما شهدناه في حرب غزة، وبالرغم من الدعاية الإسرائيلية حول أحداث 7 تشرين الأول 2023، وبالرغم من جميع المحاولات لتضليل الرأي العام العالمي، فقد استطاعت وسائل الإعلام عبر الكاميرا والهواتف الخلوية والمراسلين توثيق الإبادة الجماعية والمجاعة الانسانية والكارثة الصحية، مما انعكس في العديد من المظاهرات الدولية والإقليمية والانتفاضات الشعبية ضد الحكومات الغربية، وتحولت جميع الساحات بفعل سلطة الإعلام إلى منصات داعمة للقضية الفلسطينية.

ونجحت وسائل الاعلام الفلسطينية في غزة بتركيزها في الرسائل الداخلية على التعاضد والتكاتف بين الفلسطينيين، والرسائل إلى الخارج المتمثلة بإظهار الوحشية الإسرائيلية والمطالبة من الأطراف والمنظمات الفاعلة دولياً (كالأمم المتحدة) بوقف الحرب وتقديم المساعدات الإنسانية، ورسائل موجهة إلى العدو المتمثل بإسرائيل ومواطنيها عبر فيديوهات الأسرى والعمليات العسكرية من نقطة صفر.

لقد شكلت الحرب الإسرائيلية الانتقامية على غزة، مرحلة انتقالية في مفهوم الصراع، حيث حاولت إسرائيل إبادة القضية الفلسطينية من خلال آلة القتل التي فتكت بجميع مقومات الحياة في غزة، إلا أن الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي استطاعت نقل الحقيقة كما هي من خلال البث المباشر لعمليات القصف والقتل والتجويع.

التأثير الإسرائيلي على وسائل الاعلام

ومن حيث كون الاعلام في الحروب يشكل سلاحا خطيراً، فقد استثمرت به اسرائيل في خدمة عدوانها ونشر أفكارها، وذلك بتضليل الرأي العام الأوروبي والأمريكي من خلال امتلاك عدد كبير من الصحف والمطبوعات ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة والقنوات الفضائية وسائر شبكات الاتصال، وتبرز سيطرتهم في أخطر صناعة وهي “صناعة الرأي العام”.

فقد أظهر الإعلام الغربي ازدواجية المعايير في التعامل مع الحرب، عبر غياب المعايير المهنية في تغطية العدوان وتجاهلها للوضع الإنساني في غزة ومعاناة سكانها، حيث أظهرت معظم وسائل الإعلام الغربي انحيازها التام لإسرائيل. ومن جهة أخرى، شكلت تغطية وسائل الإعلام العربي للحرب على غزة مادة دسمة لبعض المحطات والقنوات التلفزيونية، ولكن أساليبها في التناول كانت تختلف باختلاف توجهات وطبيعة وهوية المؤسسة الإعلامية.

ورغم الإحاطة الإسرائيلية بمعظم وسائل الاعلام الغربي، فقد ساهمت وسائل الإعلام في حشد تأييد الرأي العام العالمي واستهجانه للممارسات اللاإنسانية التي تقوم بها آلة القتل الإسرائيلية والمطالبات على كافة المستويات الشعبية والدبلوماسية والحكومية والقضائية لوقف الحرب الهمجية على غزة.

بينما نجح الاعلام الفلسطيني، الذي كتب بحبر دماء صحفيين فلسطينيين استشهدوا خلال الحرب، في نقل الحقيقة، وكشف جرائم العدو الصهيوني المختلفة، بل تجاوزت الى مدى ابعد، اذ استطاعت ان تقلب الراي العام لدى شعوب دول كانت الداعم الاكبر لكيان العدو طيلة السنوات الماضية

حتى في الولايات المتحدة الأميركية، فعندما أُبلغ عن مقتل صحفيين، معظمهم في غارات إسرائيلية انتقامية في غزة، برزت الى العلن انتقادات لغياب الإدانة الواسعة في غرف الأخبار الغربية. ووقّع أكثر من 750 صحفيًا من مختلف المؤسسات الإخبارية، بما في ذلك رويترز، ولوس أنجلوس تايمز، وبوسطن غلوب، وواشنطن بوست، رسالة مفتوحة تُدين قتل إسرائيل للصحفيين في غزة، وتنتقد تغطية الحرب في وسائل الإعلام الغربية. ويطالب الموقعون باستخدام مصطلحات دقيقة مثل “الفصل العنصري” و”التطهير العرقي” لوصف معاملة إسرائيل للفلسطينيين، مشيرين إلى ازدواجية المعايير في التغطية الإعلامية.

وسائل الإعلام في تصوّر الجمهور للحرب

في بحث أجري في الجامعة الأمريكية في واشنطن، بعد شهر واحد على 7 تشرين مع إليز لابوت، الأستاذة في معهد الدراسات الاستراتيجية، حول تحليل الاختلافات بين كيفية تغطية وسائل الإعلام الأمريكية ووسائل الإعلام الدولية للصراع ومناقشة كيف يمكن للتغطية الإعلامية أن تؤثر على إدراك الجمهور للحرب.

وخلص البحث الى أن التغطية الإعلامية الأمريكية للحملة العسكرية تميل إلى تبني روايات الحكومتين الإسرائيلية والأمريكية، أحيانًا على حساب تمثيل وجهات النظر الفلسطينية بشكل كافٍ. غالبًا ما تُنشر أعداد الضحايا الفلسطينيين مع تحذير من أنها صادرة عن وزارة الصحة التي تديرها حماس في غزة، وكأن ذلك يُلقي بظلال من الشك على شرعيتها. على الرغم من أن العديد من وسائل الإعلام ألقت باللوم في البداية على إسرائيل في انفجار مستشفى الأهلي بغزة في 17 أكتوبر/تشرين الأول، إلا أن معظمها سرعان ما غيّرت رأيها عندما ألقت إسرائيل والولايات المتحدة اللوم على صاروخ فلسطيني طائش – رغم قلة الأدلة المُقدمة لوسائل الإعلام. قد يُعطي هذا انطباعًا لدى الجمهور بأن الصراع مُعقّد للغاية ويصعب فهمه.

وأضافت الباحثة بأن اللغة المستخدمة في وسائل الإعلام الأمريكية تُعدّ أيضًا نقطة خلاف. فرغم تعريف منظمات حقوق الإنسان الدولية لها بمصطلحات مثل “الفصل العنصري” و”التطهير العرقي” و”الإبادة الجماعية”، إلا أن وسائل الإعلام الرئيسية تتجنبها لأنها مصطلحات مُعرّفة بموجب القانون الدولي، ولطبيعتها السياسية المشحونة.

وبكل جرأة تقول الباحثة “ما تختار وسائل الإعلام عدم تغطيته قد يكون له نفس تأثير ما تنقله. فإغفال حقائق أو أحداث أو وجهات نظر معينة قد يُشوّه فهم الجمهور للنزاع ويؤدي إلى رؤية أحادية الجانب. كما أن التحيز الملحوظ أو غيابه في التغطية الإعلامية قد يؤثر على ثقة الجمهور بها. وهذا يؤثر على كيفية تلقي الجمهور للأخبار وتحديد المصادر التي يعتبرها موثوقة”.

الحقيقة والتضليل في منصات التواصل

أصبحت منصات التواصل الاجتماعي جزءاً أكثر أهمية في مصادر تغذية الشباب الإخبارية، ومنصات مثل تيك توك تعرض على المستخدمين محتوىً قائماً على اهتماماتهم، مما يعزز الآراء السائدة. وكانت النتيجة فهمًا مجزءاً ومستقطبًا بشكل لا يصدق للصراع، متأثرًا بالمحتوى الذي يستهلكه الناس والمنصات التي يستخدمونها للوصول إليه.

إن وفرة المعلومات، بما فيها المعلومات المضللة، على منصات مثل X (المعروف سابقًا باسم تويتر)، تُصعّب على المستخدمين التمييز بين الحقيقة والخيال. وقد زادت التغييرات في سياسات المنصة وممارسات الإشراف من تعقيد هذا التحدي. وشهدت السنوات الأخيرة تحولاً في نظرة الشباب الأمريكي لإسرائيل وكيفية تصوير معاناة المدنيين الفلسطينيين على منصات التواصل الاجتماعي.

لكن وسائل التواصل الاجتماعي مثلت بيئة خصبة لنشر المعلومات المضلَّلة والمضللِّة حول النزاع. فكثيرًا ما ينشر الناس معلومات وروايات من دون دراية كافية بالنزاع نفسه. ويمكن للمعلومات الكاذبة أو المضللة أن تُخفي الحقيقة على أرض الواقع، مما يُعمّق الانقسامات الاجتماعية والسياسية. ويتفاقم هذا الوضع بسبب الانتشار السريع لمحتوى وسائل التواصل الاجتماعي وصعوبة التحقق من صحة المعلومات آنيًا.

على سبيل المثال، تنتشر على منصات التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو وصور صادمة، بعضها صحيح وبعضها زائف. وكثيرًا ما يصعب التحقق من صحة هذا المحتوى، مما يؤدي إلى البلبلة وانتشار الكراهية. لذا، من المهم التحقق من المعلومات والبحث عن الأخبار من مصادر متنوعة، بما في ذلك الجهات الرسمية ووسائل الإعلام الموثوقة.

الذكاء الاصطناعي والاعلام

مع الانتشار المتسارع لاستخدام الذكاء الاصطناعي في القطاعات كافة، لم تكن الصحافة بمنأى عن هذا التحول الجذري، إذ دخلت الأدوات الذكية اليوم بقوة إلى صميم العمل الصحفي. ويشير تقرير من مؤسسة قطر إلى أنه بعد أن اعتادت الصحافة الاعتماد على الحدس البشري والسبق والملاحظات المكتوبة والمكالمات الهاتفية العاجلة، تغيرت قواعد اللعبة، وأصبح للتكنولوجيا دور رئيسي في إيصال الحقائق إلى الناس، ولم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد وسيلة مساعدة، بل أصبح شريكاً في صياغة المحتوى ورصد الأخبار. وبذلك، لم تعد الصحافة نتاجاً خالصاً للحكم البشري، لكنها تتشكل من خلال الخوارزميات والذكاء الاصطناعي أيضاً

 في الخلاصة: ماذا حقق الاعلام للقضية الفلسطينية

 أهم الانجازات التي ساهمت سيادة وسائل الإعلام بتحقيقها في الحرب على غزة، برزت في توثيق جرائم الابادة الجماعية والمجاعة الانسانية والكارثة الصحية بالصورة والصوت وتعاضد وتعاطف عالمي اتجاه القضية الفلسطينية. ما دفع بدولة كجنوب افريقيا ودول أخرى مستنكرة للجرائم الموثقة، الى رفع دعوى أمام محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل لوقف اعمال الإبادة الجماعية، وقرارات المحكمة بمنع اجتياح رفح، وإلزام إسرائيل بضرورة ارسال المساعدات الانسانية لقطاع غزة.

كما أدى الى إعلان عدد كبير من الدول في أوروبا وأمريكا اللاتينية اعترافهم بدولة فلسطينية مستقلة، ووصل عدد الدول التي اعترفت مع نهاية يونيو/ حزيران 2024 إلى 149 دولة من 193 هم إجمالي عدد الدول الأعضاء في الأمم المتحدة.

The post الإعلام أثناء الحروب وانعكاسه على حرب غزة appeared first on Defense Arabia.

إرسال تعليق

0تعليقات
إرسال تعليق (0)

#buttons=(Accept !) #days=(20)

Our website uses cookies to enhance your experience. Learn More
Accept !
To Top