دفاع العرب Defense Arabia
يُعتبر “إحتلال القرار” لبلد ما، مسألة خطيرة وعملية محترفة وعميقة جداً يمارسها نخبة من الخبراء المتخصصين في إدارة التأثير والهيمنة على بلد آخر، مستعينين بأدوات تقليدية وغير تقليدية وبأساليب معلنة وسرية، مستغلين ثغرات عديدة في بنية المجتمع الداخلي وفي ظروف البلد المستهدف، والتي تكون في معظم الأحيان مضطربة وغير مستقرة، حيث يسقط قرار البلد في يد قادة بلد آخر.

إن خطورة هذه المسألة تستوجب وجود فهم ووعي إستراتيجي وثقافي عند النخب الحاكمة، ليس ذلك فقط، بل أن هذا الوعي والفهم لخطورة هذه المسألة يجب أن يكون شرطاً لتعيين أو إنتخاب القادة وصانعي القرارات السياسية والأمنية والإقتصادية في أي بلد يريد المحافظة على سيادته، فإقتناء السلاح وتدريب الجيوش لا قيمة له في ظل إحتلال القرار، ولا قيمة للسياسات الخارجية والأمنية وللإستراتيجيات الدفاعية والعسكرية دون وعي إستراتيجي وفهم عميق لمعنى السيادة، ولأهمية المواطنة الحرة في أي بلد.
يُعَبِّر الاحتلال التقليدي عن السيطرة على الأرض بالقوة، بينما إحتلال القرار يُعبِّر عن السيطرة على إرادة النخب الحاكمة وصنّاع القرار في الداخل، بينما فرض الإرادة بالأيديولوجيا تُعبِّر عن إعادة صياغة قناعات الناس والنخب بحيث يقبلون أو حتى يدافعون عن سياسات الخصم أو أي طرف خارجي وكأنها سياساتهم الوطنية الخاصة.

في الوقت الذي تستخدم فيه الجيوش والقوات العسكرية لإحتلال الأرض، تُستخدم أدوات خاصة أخرى في عملية “إحتلال القرار”، ويأتي إحتلال القرار عادة بعد إحتلال الارض عندما يتم تعيين نخب حاكمة موالية للمحتل وتنفذ أجندته وخياراته على حساب مصلحة الوطن. لكن قد يتم إحتلال القرار وفرض الإرادة الأيديولوجية دون إحتلال الأرض، وذلك عبر عدة أدوات وأساليب من أبرزها:
- الاختراق السياسي: دعم تيارات أو شخصيات تخدم مصالح الجهة التي تريد السيطرة.
- التلاعب بآلية تداول السلطة: حيث يتم فرض نظام إنتخابي يضمن الأكثرية في مجالس الشعب، وفرض آلية تعيينات وفقاً لمعايير وإعتبارات مصطنعة تخدم الخارج ولا تخدم مصلحة الوطن والمواطنين.
- التحكم بالاقتصاد: عبر الديون المشروطة، العقوبات الإقتصادية وحظر الإستيراد والتصدير، التحكم بالموارد الأساسية.
- التكنولوجيا والمعلومات: التحكم بالإعلام وبالاتصالات، الأقمار الصناعية، أو شبكات البيانات.
- الإتفاقيات والمعاهدات المشروطة: التي تفرض على الدولة التزامات تحدّ من سيادتها المستقبلية وتنتقص من حقوقها.
في الوقت الذي يتم فيه إحتلال القرار عند النخب الحاكمة، قد يتم ايضاً فرض الإرادة الايديولوجية على الشعب عبر أساليب وأدوات أبرزها:
- تزوير التاريخ وإعادة كتابته: إختلاق روايات وتحريف حقائق تاريخية تتماشى مع مصلحة القوة المهيمنة.
- تشكيل الهندسة الثقافية: نشر قيم وأفكار وأساليب حياة تتوافق وتنسجم مع النظام المهيمن وتضعف الهوية الوطنية.
- التحكم بالمناهج التعليمية: لضمان أن الأجيال القادمة تتبنى القيم الجديدة.
- السيطرة على الإعلام ومواقع التواصل الإجتماعي: إنتاج محتوى جذاب ونشر روايات تضفي الشرعية على الهيمنة وتجعلها طبيعية أو حتى مرغوبة، وذلك من خلال ربطها بقضايا سامية أو عقائدية.
- تزوير المشروعية: إظهار أن الشعب برمته أو النسبة الأكبر منه تقبل بهذا الواقع، ويتم ذلك عبر إستطلاعات الرأي المزورة أو الموجهة، وعبر الحراك الشعبي في الشارع، وعبر إسكات الصوت المعترض.
مؤشرات إحتلال القرار الوطني:
- قرارات حكومية تخالف المصلحة الوطنية وتتماشى مع أجندة خارجية.
- تغييب النقاش العام حول قضايا سيادية حساسة.
- تسويق اتفاقيات أو سياسات مرفوضة شعبياً على أنها “حتمية” أو “أفضل خيار”.
- ضعف وإنحياز المؤسسات الامنية والقضائية وأجهزة الرقابة.
هناك العديد من الأمثلة عبر التاريخ التي تشير إلى إحتلال القرار لدولة أو لمجموعة دول أو لمكون داخل دولة، ومن أبرزها خطة مارشال في أوروبا والمتمثلة بإعادة الإعمار مقابل الارتباط بالنظام الغربي. الهيمنة السوفيتية على أوروبا الشرقية التي فرضت أنظمة شيوعية موالية عبر السيطرة على القرار السياسي. فرض صندوق النقد أو البنك الدولي لسياسات اقتصادية على بعض الدول النامية، إتفافيات الصين مع بعض الدول الأفريقية على قروض ومشاريع عمرانية مقابل إمتيازات لاحقة في إستخراج الثروات الطبيعية وإستثمارات وإمتيازات خاصة في هذه البلدان. وأخيراً المثال اللبناني حيث يتعرض هذا البلد لإحتلال القرار من أطراف خارجية متصارعة تحاول أن تفرض عليه واقع سياسي وأمني يُلائم أهدافها ورؤيتها في المنطقة.
كيف يمكن مواجهة محاولات إحتلال القرار وكيف يمكن تحرير القرار من الإحتلال؟
سؤال هام جداً يُطرح على طاولة النخب السياسية في البلدان الخاضعة، فإذا فكرنا بمنطق كلاوزفيتز عن مركز الثقل (Center of Gravity)، فمركز الثقل في إحتلال القرار ليس بأشخاص الحكومة القائمة بحد ذاتهم، بل بالبيئة المؤثرة في صناعة القرار، والدليل على ذلك أن تغيير الحكومات في كثير من الاحيان يأتي بحكومات مشابهة مسلوبة القرار ولا يكون الحل لجلب القرارات السيادية، وتشمل: البيئة الحاضنة والمؤثرة في القرار ما يلي:
- نخبة صناعة القرار وهم: الرئيس، مجلس النواب أو مجلس الشعب، قادة الاحزاب السياسية، الوزراء في الوزارات المعنية بصناعة القرار السيادي مثل الخارجية والدفاع والداخلية…
- العصب الاقتصادي الممول لهذه النخبة (رجال أعمال، مصارف، شركات حيوية).
- مفاتيح الشرعية الداخلية للنخبة الحاكمة (إعلام، زعماء طوائف، مؤسسات دينية أو مدنية).
- التحكم بمصادر المعلومات التي تُغذّي القرار السياسي (تقارير أمنية صادرة عن أجهزة متواطئة، استطلاعات رأي معلبة، مراكز أبحاث منحازة…).
أما كيف يجب إستهداف البيئة الحاضنة للقرار المُحتل، فذلك يتم عبر تشكيل منظومة وطنية سياسية-مدنية سيادية متمكنة شعبياً، تمارس ضغطاً عبر كافة الوسائل المتاحة لتغيير عملية تداول السلطة مثل قانون الإنتخاب وطرق التعيين في المراكز الهامة، وتقوم بفضح الخلل السيادي الناجم عن القرارات المتخذة، إضافة إلى إقامة جبهة إعلامية مواجهة وجهاز إداري-قانوني يضع الإصبع على الجرح ويوجه الإتهامات ويحمل المسؤوليات، والأهم من كل ذلك، أن لا تكون هذه المنظومة مرتبطة بالخارج وتمارس مهامها ونشاطاتها بإستقلالية وطنية خاضعة للمصلحة العامة.

على الرغم من أن هذا التقرير يطال جوانب سياسية وقانونية في معظم محتوياته، إلا أنه فعلاً يمس بشكلٍ مباشر النواحي الأمنية والعسكرية، لذلك أطلقت عليه عنوان “إحتلال القرار”، فإحتلال القرار يُغني عن إحتلال الارض، ولا يتطلب تقديم تضحيات وخسارات هائلة في المعارك والمواجهات، ولا إقتناء ترسانات هائلة ومكلفة من الأسلحة، فقط بعض الخونة وضعاف النفوس، وآلية تضليل محترفة، وممارسة الإرهاب على الرأي العام الحر، وتدجين بعض المؤسسات الأمنية لتعمل لصالح الطرف المهيمن على صناعة القرار المزيف.
إن القوة الحقيقية في عملية إحتلال القرار ليست في السيطرة على الدولة بحد ذاتها، بل في جعل القرار المسروق يبدو وكأنه قرار وطني مستقل، مواجهة ذلك تحتاج إلى عكس العملية: إعادة تعريف “الوطنية” بما يكشف “التبعية” بدل أن يغطيها.
The post خريطة طريق “احتلال القرار”: أدوات سرية ودقيقة لفرض الهيمنة وتدجين النخب الحاكمة appeared first on Defense Arabia.