الهدر المدفون: كيف تتحول مليارات الإنفاق العسكري إلى حديد صدئ؟

0

دفاع العرب Defense Arabia

العقيد الركن م. ظافر مراد

هذا التقرير ليس عن القوة العسكرية التي تُستخدم، بل عن تلك التي دُفنت حيَّة في مستودعاتها، لم تر النور ولم يطرقها غبار المعارك. الهدر الخفي في الإنفاق العسكري، المليارات التي تتحول إلى حديد صديء بلا قيمة، والثروات المهدورة بلا رؤية واضحة وبدون خطط ذكية ومتكيفة، كل ذلك يجعل من الإنفاق العسكري معضلة مستعصية يجب أن تُثار وأن تُتَّخذ بشأنها التدابير والإستراتيجيات المناسبة، ليس فقط في عملية الإنفاق العسكري وحجمه، بل أيضاً في إختيار أنواع الأسلحة والشركات الموثوقة والتي تكون قادرة على تحديث المنظومات والمحافظة على ميِّزاتها وفعاليتها أطول فترة ممكنة.  

ما سنثيره في موقع دفاع العرب في هذا الشأن هو قضية مركزية تتعلق بالإنفاق الدفاعي غير الرشيد، ومناقشة لبعض التفاصيل والإعتبارات الهامة التي تكاد تكون دليلاً في الإنفاق العسكري، مع إلقاء الضوء على بعض التفاصيل وعن الحلول الممكنة لمسألة الهدر والخسارات الكبيرة في هذا الإنفاق، فلا يجب أن تكون مسألة الأمن الوطني فجوة متسعة تتسرب منها مقدرات الدولة بدون أي فائدة أو بدون القدرة على الإستثمار طويل الأمد، لا سيما عند إنتفاء الضرورة لهذا النوع من الإنفاق.

 تناولت العديد من مراكز البحوث مسألة تزايد الإنفاق العسكري على المستوى العالمي في العقدين الأخيرين، وهو ما كان لافتاً بسبب الصراعات والحروب التي اندلعت وتفاقمت في هذه الفترة، وتبين أن العالم ينفق تريليونات الدولارات على السلاح، لكن معظم هذا السلاح لا يرى نور المعركة، فالصواريخ تتقادم في المخازن قبل أن تُطلق، والذخائر تتحوّل إلى نفايات سامة قبل أن تقترب من ساحة قتال، وكأن الدول لا تشتري أمنًا، بل تشتري وهمًا معدنيًا يصدأ ببطء.

أصدر معهد ستوكهولم الدولي لابحاث السلام (SIPRI) تقريره السنوي حول الإنفاق العسكري العالمي في العام 2024، والذي وصل إلى 2.718 تريليون دولار، والزيادة كانت 9.4٪ بالمقارنة مع العام  2023، وهي أكبر زيادة سنوية منذ نهاية الحرب الباردة، وارتفع الإنفاق العسكري كحصة من الناتج المحلي الإجمالي (GDP) إلى حوالي 2.5٪ عالميًا، وجاء بالنسبة للدول الكبرى على الشكل التالي:

  • الولايات المتحدة أنفقت تقريبًا 997 مليار دولار في العام 2024، وهي الأولى عالمياً من حيث الإنفاق العسكري بنسبة وصلت إلى 37% تقريبا من الإنفاق العالمي.
  • الصين  314 مليار دولار، 12%.
  •  روسيا  149 مليار، 5.5%.
  • ألمانيا 88.5 مليار، 3.3%.
  • الهند 86.1 مليار، 3.2%.
  • بريطانيا  81.8 مليار، 3%.
  • السعودية 80.3 مليار، 3%.

ورغم ارتفاع الإنفاق العالمي إلى 2.718 تريليون دولار عام 2024، والإهتمام بمتابعة تصاعد هذا الإنفاق وكيفية توزيعه بين الدول، وفي مكونات الجيوش، وفي الابحاث العلمية العسكرية، إلا أنه لا توجد بيانات كافية تبيِّن نسبة الإنفاق الذي ذهب إلى أسلحة لم تُستخدم أو تُلفت بالمستودعات سابقاً، وهذه الفجوة الكبيرة في البيانات المتاحة عن الهدر وعن الأسلحة والذخائر التي يتم تلفها أو التخلص منها، تطرح الكثير من علامات الإستفهام، فإن ضخامة الإنفاق العالمي تستوجب وضع دراسات دقيقة ومفصلة، وإبتكار وسائل وخطط  لتخفيض هذا الهدر، فكم من هذا الإنفاق ذهب على أسلحة لم تُستخدم إطلاقًاً، وكم من الذخائر انتهت صلاحيتها أو تلفت بالمستودعات، وما هو حجم وقيمة الأسلحة التي لم تدخل الخدمة الفعلية أو لم يتم إستخدامها وفقاً لما صُنعت من أجله.

وفي العودة إلى بداية العقد الماضي، نلاحظ إرتفاعاً في إتجاهات الإنفاق العسكري منذ العام 2010 مدفوعاً بتطورات وتحديات جيوسياسية، فرضتها عدة عوامل في ثلاث مناطق رئيسية في العالم وهي: الشرق الأوسط الذي يحتوي الصراعات الأيديولوجية والقضية الفلسطينية، النزاعات في بحر الصين الجنوبي والمسألة التايوانية، وأخيراً شرق أوروبا وبالتحديد مسارح عمليات الحرب الروسية الأوكرانية وخلفياتها الممتدة من الحركات الإنفصالية في شرق أوكرانيا مروراً بضم شبه جزيرة القرم ووصولاً إلى الواقع الحالي.

يلاحظ أن الإنفاق العسكري على المستوى العالمي مرَّ منذ العام 2010 حتى العام 2014، بحركة تذبذب خفيفة نسبتها تراوحت بين 1.5 و1.7 تريليون دولار، ثم حصل إرتفاع تدريجي منذ العام 2014، ليصل إلى تصاعد حاد بعد العام 2021 نتيجة توترات أوكرانيا والشرق الأوسط، وصولًا إلى القفزة الكبيرة التي تحدثنا عنها من العام 2023 حتى العام 2024.

إرتفع الإنفاق الأوروبي بشكلٍ ملحوظ بعد الحرب الروسية-الأوكرانية منذ العام 2022 حتى 2024، حيث إزداد تخصيص الإتحاد الأوروبي لميزانيات الدفاع بنسبة 17% في العام 2024، وعلى مستوى الدول العربية، جاءت السعودية في المرتبة الاولى، حيث أنفقت ما يقارب 76 مليار دولار في العام 2023 وهو الإنفاق السنوي الأعلى، أما مصر التي تعتبر القوة الاولى عربياً، فقد انفقت في العام 2022 مبلغ  4.65 مليار دولار، وفي العام 2023 مبلغ  3.17 مليار، والعام 2024 مبلغ 2.4 مليار.

لا يمكن حساب كلفة الهدر في الإنفاق العسكري وفقاً لنسبة إستخدام الأسلحة والمعدات العسكرية والإستفادة منها في الحروب والمهام القتالية، فجزءٌ منها يأتي في إطار الضرورة لوجود جيش مجهز قادر على آداء مهام متعددة، إضافةً إلى كلفة تأمين “حالة الردع”، وهناك الكثير من الإعتبارات المحسوبة التي تنسجم مع رؤية الدولة لأمنها الوطني، وتتلاءم مع الإستراتيجيات العسكرية والعقيدة القتالية المعتمدة، كما ان هناك العديد من المهام غير القتالية التي تُلقى على عاتق الجيوش، مثل التدخل في الأزمات والكوارث، تقديم الدعم في عمليات الإنماء والإعمار، مساندة عناصر ومؤسسات حكومية أخرى…..ألخ.

في الوقت الذي تعتبر فيه معظم الأسلحة والقطع الكبيرة صالحة للإستخدام لوقتٍ طويل قد يتجاوز أحياناً 50 سنة، إلا أن ذلك لا ينطبق على الذخائر والمقذوفات والصواريخ، والتي تتراوح صلاحيتها بين 15 إلى 20 سنة في حدها الاقصى، وبعد هذا الوقت تصبح تلك الذخائر غير مضمونة الفعالية والدقة، وربما تصبح خطيرة في عملية الإستخدام. وفي هذا الإطار، يُلاحظ أن الهدر في الإنفاق العسكري قد بلغ مستويات هائلة وغير مسبوقة، ويعود ذلك إلى زيادة الإنفاق بسبب إرتفاع درجات المخاطر وعدم اليقين واللا إستقرار في عدة مناطق من العالم، فأصبح التجهيز والتسليح جزء من الضمانة الوطنية التي لا غنى عنها، وفي الحديث عن الإنفاق العسكري، يجب ملاحظة الهدر وكميات الأسلحة والذخائر التي لم تعد لها قيمة وفعالية، وعلى الرغم من عدم وجود أرقام دقيقة في هذا الشأن، ولكن من المؤكد أن النسبة تختلف بين بلدٍ وآخر، وبين أصناف الأسلحة والشركات المصنعة لها، فمثلاً عند البلدان التي تخوض حروب دائمة وممتدة مثل الجيش الإسرائيلي، الأميركي، الروسي، قد تكون نسبة الهدر حوالي 10%  ولا تتجاوز 20% في أسوأ حالاتها، بينما عند بعض الدول التي لا تخوض حروباً والتي هي بعيدة عن التوترات الجيوسياسية، مثل سويسرا، السويد، النروج، سنغافورة، يتجاوز الهدر والتقادم في الأسلحة والذخائر أحيانا نسبةً 50% من كلفة الإنفاق العسكري، لذلك فإن رفع ميزانية الدفاع في العديد من الدول، لا سيما الأوروبية منها، هي مسألة تأخذ نقاشاً وبحثاً عميقاً في أروقة صنَّاع القرار.

يُطرح سؤال مركزي هام حول كيفية التعامل مع هذا الواقع، وماهي السبل والإجراءات التي يجب إتخاذها للتقليل من مفاعيل تقادم الأسلحة والذخائر، وعدم الوقوع في فخ الهدر غير المحسوب في ميزانيات الدفاع، وفي هذا الشأن نطرح بعض الحلول الفاعلة وأهمها ما يلي:

  • وضع إستراتيجية تسلُّح متناسبة مع الواقع الجيوسياسي والمخاطر والتهديدات المحتملة، دون المبالغة في الإنخراط في إنفاق دفاعي غير ضروري وغير مُجدي.
  • مراقبة حالة الأسلحة والذخائر من ناحية تاريخ الصلاحية، والتخلص من ما تجاوز نصف العمر المحدد لها، عبر البيع أو الإستبدال أو الإستخدام في التدريب أو في أي نشاطات غير حربية.
  • إختيار الأسلحة والمنظومات القتالية التي يمكن تطويرها وإدخال التحديثات عليها دون قيود تقنية أو سياسية.
  • إختيار مصادر الأسلحة من شركات موثوقة وقادرة على إجراء التعديل والتطوير للمنظومات القتالية الباهظة الثمن، ونتحدث هنا عن الطائرات والدبابات والسفن الحربية ومنظومات القيادة والسيطرة.
  • إعتماد عقود شراء وصيانة تلحظ شروط محددة تسمح بعملية التطوير أو الإستبدال أو البيع أو المنح لدول أخرى.
  • أخيراً والأهم، بناء جيش متكيِّف قادر على التعامل مع المعضلات والمشاكل المتأتية عن تقادم الأسلحة والذخائر والمنظومات القتالية، وإيجاد الحلول لها من خلال بناء قاعدة علمية يشغِّلها خبراء ومهندسين متخصصين في هذا المجال، قادرين على العمل بإستقلالية وإجراء عمليات التعديل والتطوير والتحديث المطلوبة.

تُعتبر الشركات الأميركية وعلى رأسها لوكهيد مارتن وبوينغ من أفضل الشركات التي تقدم حلولاً لتطوير معداتها لا سيما بالنسبة للطائرات الحربية الباهظة الثمن، وهذا التطوير والتحديث لا يلحظ فقط الانظمة والقدرات الحديثة، بل أيضاً يأخذ بعين الإعتبار التحديات الجيوسياسية لكل زبون، والمخاطر المتصاعدة والإبتكارات العسكرية التي تشكِّل معضلات كبيرة في مجال الأمن والدفاع، ونلاحظ هذا التطوير من خلال عمليات التحديث المتتابعة لطائرات F-16  وF-22 و F-35 عند لوكهيد مارتن، ولطائرات F-15  و  F-18عند بوينغ.

يجب أن تشمل عمليات تحديث المنظومات القتالية المتكاملة، مثل السفن والزوارق الحربية والطائرات والدبابات ومنظومات القيادة والسيطرة، الأجهزة الإلكترونية مثل الرادارت ومنظومات إدارة المعركة وقدرات الحرب الإلكترونية، تحديث القدرات النارية، تحديث المحركات وأنظمة الدفاع الذاتي، دمج تكنولوجيا الذكاء الإصطناعي. 

هناك عدة دول عربية تعمل حالياً على تحديث أسلحتها القديمة، وهذا التحديث يختلف من حيث المستوى، وهو يرتبط بثلاثة عناصر أساسية هي: القدرات المالية، القاعدة الصناعية العسكرية الوطنية، الشراكات والتعاون مع الشركات المصنعة للأسلحة والمعدات المطلوب تحديثها، أما ابرز هذه الدول، فتأتي مصر في المرتبة الأولى حيث تمتلك أكبر قاعدة صناعية عسكرية مع خبرات متقدمة، إضافةً إلى شراكتها مع شركات لوكهيد مارتن، بوينغ، رافال.

بعد مصر تأتي المملكة العربية السعودية بخبرات صاعدة وبقدرات مالية ضخمة، إضافةً  إلى شبكة علاقات قوية جداً مع لوكهيد مارتن، رايثيون، بوينغ، جنرال داينامكس. ثم الإمارات التي لديها صناعات محلية واعدة (شركة EDGE)، وبرامج صيانة وتحسين للأسلحة بالتعاون مع شركات عالمية، إضافةً إلى دول عربية أخرى سلكت مسار التحديث الذاتي لقدراتها العسكرية مثل الأردن وقطر والجزائر.

لا يعبِّر الهدر في الإنفاق العسكري عن حساب الخسارات بنتيجة الخيارات المفروضة، بل هو انعكاس لقرارات استراتيجية خاطئة، لا تتناسب في كثير من الأحيان مع الواقع الجيوسياسي للدولة، ولا تستطيع مواكبة الواقع الميداني والتكنولوجي في المعركة الحديثة. وهنا تجدر الإشارة إلى أن بعض الدول الكُبرى تأخذ بعين الإعتبار إستثمار أسلحتها وذخائرها في حروب مفتعلة أو هادفة لتحقيق أهداف ومصالح إستراتيجية ضمن خطط جاهزة تنتظر الظروف الملائمة والتوقيت المناسب.

إن تراكم الأسلحة والذخائر القديمة لا يولّد قوة عسكرية، بل عبء مالي وأمني يثقل كاهل الدولة ويقلل من فاعلية قواتها ويشتت جهودها. مواجهة هذه الأزمة تتطلب شجاعة وحكمة في إعادة تقييم الأولويات، استثمارًا ذكيًا في القدرات الحديثة مع شركاء عالميين موثوقين، وابتعادًا عن التقليد الأعمى الذي يحوّل الإنفاق العسكري إلى مجرد ترف مالي بلا فائدة ملموسة.

The post الهدر المدفون: كيف تتحول مليارات الإنفاق العسكري إلى حديد صدئ؟ appeared first on Defense Arabia.

إرسال تعليق

0تعليقات
إرسال تعليق (0)

#buttons=(Accept !) #days=(20)

Our website uses cookies to enhance your experience. Learn More
Accept !
To Top