دفاع العرب Defense Arabia
المسيرات تعيد تعريف فلسفة الحرب، من لا يستيقظ الآن سيسقط في غيبوبة، وسيفوته اكتساب قدرات إستثنائية، وسيعرِّض مصالحه لمخاطر كبيرة وهائلة. أي قيادة لا تقرأ الخرائط الجديدة لتوزيع وإنتاج هذه القدرات الإستراتيجية ستدفع غالياً ثمن التأخير. لقد أدهشت المسيرات القيادات والخبراء العسكريين من خلال الأحداث والحروب الحالية في نواحٍ عديدة، أبرزها السرعة في التطوير، أساليب الإستخدام السهلة والفاعلة، والتأثيرات المفاجئة والنوعية التي تتركها في أرض المعركة.
أصبح استخدام المسيرات اليوم محكوماً بالإبتكار والتفكير خارج الصندوق، في الوقت الذي تنوء فيه القدرات العسكرية بأثقالها في التفكير التقليدي، تأتي المسيرات لتشكِّل الإستجابة المثالية والحل الأنسب لتهديد قدرات العدو، منعه من السيطرة على الأرض، وإشغاله المتواصل في معضلة الدفاع في المكان والزمان الحرجين.
بدأ إنتاج المسيرات الجوية فعلياً في العام 1916 في بريطانيا، نتيجة فكرة مصدرها الحاجة لأهداف طائرة موجهة لا سلكياً لتنفيذ إختبارات على أسلحة مضادة للطائرات، وكان ذلك أول إنتاج لمسيرة تعمل بالتوجيه الراديوي، بعدها تم تطوير هذه الأدوات لإستخدامات متعددة في الحرب العالمية الثانية بعدما ترسَّخت الفكرة في أذهان الباحثين والخبراء العسكريين.

تطوَّر إستخدام المسيرات من الإستطلاع الجوي بعيد المدى، ليصبح متعدد المهام في ظروف تطوُّر التكنولوجيا التي تخدم العلم العسكري، فظهرت انواع متعددة منها:
- استطلاعية: (Surveillance/Recon)، تنفذ مهام الإستطلاع والمراقبة على الجبهات وفي العمق المعادي، ومنها ما هو مخصص للمهام الطويلة والبعيدة المدى، أشهر هذه المسيرات الأميركية RQ-4 Global Hawk، صناعة شركة Northrope Grumman، لديها القدرة على التحليق لمدة 30 ساعة على إرتفاعات تصل إلى 20 كلم ومدى عملياتي يصل إلى 22 الف كلم.

- هجومية: (Combat UAVs)تنفذ مهام القصف الجوي وإستهداف اشخاص أو آليات أو مراكز ومقرات عسكرية أومدنية هامة. أشهر هذه المسيرات الأميركية MQ-9 Reaper، صناعة شركة General Atomics، قادرة على حمل صواريخ Hellfire وقنابل GBU-38. هناك ايضاً التركية Bayraktar Akinci، صناعة شركة Baykar، بقدرة تحليق تصل إلى 20 ساعة وحمولة حوالي 150 كلغ.

- انتحارية/كاميكازي: (Loitering munition)، تنفذ مهام الإنفجار على الهدف، بعضها يعمل ذاتياً وبعضها يوجَّه عن بُعد. أشهرها طائرة Shahed-136 الإيرانية ، ZALA Lancet الروسية.

هناك ايضاً نماذج أخرى تستخدم في مهام لوجستية مختلفة، ولكن تكمن النقلة النوعية في صناعة وإستخدام المسيرات دمج قدرات الذكاء الاصطناعي لتصبح ذاتية القيادة والقرار في الإستهداف، ما يجعل منها اداة قتل متسكعة عصية عن الكشف.
أما ماذا قدَّمت المسيرات من جديد في مجال الفكر العسكري والتخطيط وأساليب الإشتباك على المستويات الإستراتيجية والعملياتية والتكتية، فهناك الكثير للحديث عنه، ولا زالت الحروب والمواجهات العسكرية المستعرة في العالم، تقدم لنا البراهين والحالات التي تستحق الدراسة واخذ العبر منها. ومن ابرز الميرزات والقدرات التي أدخلتها المسيرات على مفاهيم الحرب والقتال هي ما يلي:
- قدرات عالية بكلفة ضئيلة، حيث أصبحت المسيرات البديل الابرز عن الكثير من العتاد المُكلف، لا سيما الطائرات الحربية القاذفة.
- تقنيات التصنيع البسيطة والمتوافرة عند معظم الدول، لا سيما تلك التي تعاني من عقوبات وحظر على إستيراد التكنولوجيا العسكرية.
- إمكانية الإستحواذ على كميات هائلة منها دون الحاجة إلى مطارات، ودون إرهاق ميزانية الدفاع والأمن.
- تأمين قدرات نوعية متعددة بدءًا من الإستهداف الفردي لجنود العدو، مروراً بضرب منصات وقواعد عسكرية، ووصولاً إلى تهديد منشآت وطنية عسكرية أو مدنية خطرة وهامة في العمق البعيد المعادي.
- القدرة على التسلل ومفاجأة الأعداء دون التعرض للإكتشاف.
- القدرة على إغراق مسرح العمليات بالتهديدات عن طريق إرسال مجموعات كبيرة منها وبشكلٍ متتابع، في المراحل الحرجة من المعركة الكبرى، ما يتسبب بتشتيت جهود الدفاع الجوي المعادي.
- إستنزاف قدرات الدفاع الجوي للعدو وجعل كلفة الدفاع باهظة جداً عبر الزج بأعداد كبيرة منها في الأجواء المعادية.
- إبقاء العدو تحت حالة التهديد المستمر والشعور بعدم الأمان والإستقرار.
- إكتساب قدرات لا متماثلة في وجه القوى العُظمى والجيوش الكبرى والحديثة، وإمكانية إستهداف وتهديد قواعدها ومصالحها.
- إمكانية النشر والإستخدام بشكلٍ سري، حتى داخل أراضي العدو وقرب المناطق والقواعد الحساسة والهامة.

جميع هذه الميزات تستوجب السعي للحصول على أعداد كبيرة من المسيرات المتعددة الانواع والإستخدامات، ليس هذا فقط، بل ايضاً إكتساب القدرة على تصنيعها وطنياً وعربياً، طالما أن ذلك لا يحتاج لخبرات وعلوم وتكنولوجيا عالية المستوى، ولا قدرات مادية كبيرة، ولا قدرات صناعية ثقيلة غير متوافرة.
المسيّرات لم تغيّر فقط أدوات القتال، بل أعادت تشكيل الفكر والإسلوب القتالي نفسه، من عقيدة قائمة على الحشد والنشر للقدرات العسكرية، إلى عقيدة تُقدّر السرعة في الحصول على المعلومة، والقدرة على توجيه الضربة بسرعة وفعالية بتكلفة منخفضة، لقد تغلَّبت المسيرات على المسافات واختصرت الزمن والتوقيتات، واخترقت أحدث المنظومات الدفاعية الأرضية والجوية والبحرية، وجعلت من الدفاع ضدها مسألة شائكة ومشكلة عالمية.

أثبتت المسيرات فعلاً أنها أداة إستراتيجية فاعلة بيد من يُحسن إستخدامها، فقدراتها المختلفة المستويات والمتنوعة التأثيرات، أدخلت إعتبارات جديدة في مفاهيم القتال، هذا التحوُّل يفرض إعادة كتابة المفاهيم، من قواعد المناورة بالنيران، إلى نشر القوى وتوزيع الدفاعات، وحتى إلى مفهوم الردع نفسه، لأن من يملك القدرة على الرصد المستمر، والإختراق السريع والعميق، والضرب بالسرعة المطلوبة، يكسب أولوية التحكم بالمشهد العملياتي. بالتالي، لم يعد تطوير الوحدات العسكرية وحده كافياً، المطلوب دمجها في منظومة قرار جديدة، عقيدة أقل مركزية، أكثر تفاعلاً، أسرع إستجابة، قابلة للتكيف والتعامل مع أسراب من المسيرات، سواء في الإستخدام أو في المواجهة، ومصممة لتحويل قدرات المسيرات في السماء إلى فرص وميزات في أرض المعركة.
The post أسراب المسيرات تحول ميزان القوة: كيف صاغت المسيرات خرائط الصراع الجديدة؟ appeared first on Defense Arabia.
.png)