خمسون عامًا من الحماية.. وخمسون عامًا قادمة من الريادة – الجزء الأول

0

دفاع العرب Defense Arabia

سامي أورفلي

في مجمع غولباشي الحديث، جلس رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لشركة أسيلسان ASELSAN، أحمد أكيول، ليُلقي كلمة كانت أشبه بإعلان فلسفة جديدة لمستقبل الصناعات الدفاعية التركية.

قال أكيول في مستهل كلمته: “الآن نحن في مرحلة الانتقال إلى الخمسين عاماً القادمة؛ فعلنا الكثير لكن أمامنا الكثير أيضاً.

لم تكن كلماته مجرد شعارٍ احتفالي، بل انعكاسًا لتحولٍ استراتيجيٍّ عميق تشهده الشركة التي تأسست عام 1975 استجابةً لحاجة وطنية بعد أزمة قبرص، لتصبح اليوم أحد أعمدة التكنولوجيا الدفاعية العالمية.

في نظر أكيول، باتت أسيلسان أكثر من مجرد مصنّع للسلاح أو الإلكترونيات العسكرية، إنها مختبرٌ للعقول التركية ومصدر إلهامٍ عالمي، يُجسّد الانتقال من “الاستقلال الصناعي” إلى “الريادة المفاهيمية”.

ومع دخول الشركة عقدها السادس، يطرح سؤال جوهري نفسه: هل يمكن لدولةٍ بدأت رحلتها من الحصار التكنولوجي أن تصبح لاعبًا يصوغ ملامح مستقبل الحروب الذكية؟
تجيب أسيلسان عن هذا السؤال بخارطة طريق جديدة تحمل رؤية تستند إلى فلسفة “السلام من خلال الردع”، وتربط ما بين الابتكار، والاستدامة، والسيادة التكنولوجية.

الفصل الأول: إرث خمسين عامًا من التأسيس إلى الريادة

حين تأسست أسيلسان في عام 1975 بمبادرة من القوات المسلحة التركية، لم يكن أحد يتصور أن ورشة تصنيع أجهزة الاتصال العسكرية الصغيرة ستتحول خلال نصف قرن إلى كيانٍ عملاق يعمل فيه أكثر من 10 آلاف مهندس وخبير، ويُصدِّر منتجاته إلى أكثر من 93 زبون حول العالم.

كانت البداية بدافع الضرورة؛ فقد كشف نزاع قبرص هشاشة البنية الدفاعية التركية واعتمادها شبه الكامل على الخارج. ومن رحم تلك الأزمة وُلدت الفكرة: أن تبني تركيا سلاحها بيدها.

طوال العقود الثلاثة الأولى، ركّزت أسيلسان على تطوير قدراتها التقنية الذاتية في مجال الاتصالات التكتيكية والرادارات وأنظمة القيادة والسيطرة. كانت تعمل بصمت، تبني المعرفة وتؤسس لمدرسة هندسية تركية خالصة، حتى بدأت نتائج هذا التراكم العلمي تظهر في مطلع الألفية الجديدة.

مع صعود الصناعات الدفاعية التركية كقطاعٍ وطني استراتيجي، أصبحت أسيلسان القلب النابض لهذا التحول. لم تعد مجرد شركة دفاعية، بل أصبحت نظامًا وطنيًا للابتكار المتكامل، يربط ما بين البحث الأكاديمي والصناعة الميدانية، وبين حاجة الجيش التركي ورؤية الدولة لمكانتها الدولية.

وبحلول عام 2025، أصبحت أسيلسان الشركة الأعلى قيمة في السّوق الدفاعية التركية، متقدمة على شركات الطاقة والاتصالات الكبرى. هذا الإنجاز لم يكن صدفة، بل نتيجة لثلاثة أعمدة صلبة:

  1. استقلال القرار التقني: تصميم وتطوير كل المكونات الحرجة محليًا.
  2. تنويع قطاعات العمل: من الدفاع الجوي إلى الإلكترونيات البحرية والطاقة الذكية.
  3. تدويل العلامة التجارية: دخول الأسواق الخارجية بثقة ومشروعات نقل تكنولوجيا متقدمة.

اللافت أن أسيلسان لم تكتفِ بالتفوق الصناعي، بل أصبحت مدرسة فكرية في الهندسة الدفاعية المتقدمة. فكل جيل من منتجاتها لا يطور النسخة السابقة فحسب، بل يقدم مفهومًا جديدًا كليًا في التصميم والتكامل.
ولعل أبرز ما يميزها هو قدرتها على تحويل القيود إلى فرص؛ فكل حظرٍ أو عقبة في التوريد الدولي كانت دافعًا لتصميم منتج تركي بديل أكثر تطورًا، حتى أصبحت اليوم هي من تفرض المعايير، لا من يتّبعها.

الفصل الثاني: AselsaneXt 2030.. خريطة الطريق نحو الخمسين عامًا القادمة

حين تحدث أحمد أكيول عن “الانتقال إلى الخمسين عاماً القادمة”، بدا واضحًا أن الشركة لا تنظر إلى الماضي إلا بوصفه نقطة انطلاق نحو مستقبل أكبر.
فالمرحلة المقبلة، كما قال، لن تُقاس بعدد المشاريع أو الصادرات، بل بمدى تأثير أسيلسان في صياغة مفهوم الردع الذكي عالميًا.

يستند برنامج الشركة الجديد إلى 4 محاور استراتيجية تشكل العمود الفقري لرؤيتها المستقبلية:

  1. التحول التكنولوجي الشامل (Total Technological Transformation)
    تهدف أسيلسان إلى إدخال الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي في كل طبقة من منتجاتها، من أنظمة القيادة والسيطرة إلى الرادارات والاستشعار الكهروبصري.
    لم تعد الأجهزة تعمل كمنصات مستقلة، بل كشبكات متكاملة تتواصل وتتعلم وتتخذ قرارات تكتيكية آنية.
    تسعى الشركة إلى تحويل الأنظمة الدفاعية من “تفاعلية” إلى “ذكيّة” قادرة على تحليل البيانات الميدانية في الزمن الحقيقي والتصرف ذاتيًا.
  2. الهندسة المفاهيمية (Conceptual Engineering)
    في العقود الماضية، كان هدف أسيلسان سد الفجوات التقنية.
    أما اليوم، فإنها تسعى إلى خلق مفاهيم جديدة بالكامل، مثل أنظمة “Steel Dome” للدفاع الجوي الشبكي، أو منظومة “كوجاتبه” لإدارة ساحة المعركة التي تأمن تكاملاً رقمياً لمركز القيادة والعناصر القتالية التابعة له.
  3. السلام من خلال الردع (Peace Through Deterrence)
    لا ترى أسيلسان التكنولوجيا أداة للهيمنة أو الصراع، بل وسيلة لتحقيق توازنٍ مستدام يمنع الحروب.
    هذا المبدأ الذي تبناه أكيول صاغ فلسفة جديدة للابتكار العسكري التركي: أن تردع لتمنع، لا لتهاجم.
    ولذلك، فإن كثيرًا من مشاريعها الجديدة، مثل أنظمة الكشف المبكر والاستشعار الكهروبصري بعيدة المدى، مصممة لتقليل احتمالات الاشتباك وليس لزيادتها.
  4. الاستدامة البشرية والبيئية (Sustainable Defense Industry)
    أدركت أسيلسان أن البقاء في طليعة التكنولوجيا لا يتوقف على الآلات أو البرامج، بل على العقول.
    لذا، استثمرت الشركة في جيل جديد من المهندسين والعلماء الأتراك من خلال مدارس ومختبرات متخصصة داخل منشآتها، وبدأت بخفض الأثر البيئي للعمليات الصناعية الدفاعية من دون المساس بالكفاءة أو الأداء.

بهذا المعنى، يمثل AselsaneXt أكثر من خطة تطوير؛ إنه إعلان ولادة مرحلة جديدة في الصناعات الدفاعية التركية، حيث تصبح التكنولوجيا أداة سيادية واقتصادية في آنٍ واحد.

الفصل الثالث: من أنقرة إلى العالم.. أسيلسان كلاعب دولي

في السنوات الخمس الأخيرة، تجاوزت أسيلسان حدود السوق التركية لتتحول إلى شركة عالمية حقيقية.
تُدير الشركة اليوم شبكة واسعة تضم أكثر من 13 ألف موظف، 65% منهم مهندسون، وتشرف على 11 مركز أبحاث وتطوير، وتعمل ضمن 6 قطاعات رئيسية تشمل الدفاع الجوي والبري والبحري، والرادارات والحرب الإلكترونية، والاتصالات العسكرية، والأنظمة الكهروبصرية، والإلكترونيات الدقيقة.
تحقق الشركة إيرادات تتجاوز 3.4 مليار دولار سنويًا، ما يجعلها ضمن قائمة أكبر 50 شركة دفاعية في العالم، بحسب تصنيف موقع Defense News.

وتتوسع الشركة في البنية التحتية الإنتاجية بوتيرة غير مسبوقة؛ إذ أعلنت عن مشروع ضخم لإنشاء أكبر مجمع صناعي دفاعي في أوروبا على مساحة 6.5 كيلومتر مربع، يتوقع أن يضاعف الطاقة الإنتاجية بحلول عام 2030 بنسبة 100%. هذا التوسع يعكس بوضوح هدف تركيا في جعل الاستقلال الصناعي الدفاعي أحد أعمدة قوتها الوطنية.

1. الشرق الأوسط وأفريقيا: المجال الطبيعي للتمدد

تعتبر أسيلسان أن المنطقة العربية وشمال أفريقيا هي الامتداد الطبيعي لتقنياتها.
فالعلاقات التاريخية والثقافية، إلى جانب تشابه البيئات العملياتية، جعلت من منتجاتها، مثل أنظمة الدفاع الجوي قصيرة المدى “GÖKDENİZ” والرادارات ثلاثية الأبعاد، خيارات مفضلة لجيوش المنطقة.
كما أن الشركة تبنت سياسة “نقل التكنولوجيا”، إذ تتيح للشركاء العرب تصنيع بعض المكونات محليًا ضمن برامج مشتركة، مما يعزز من مكانتها كصانعٍ وشريكٍ في آنٍ واحد.

2. آسيا الوسطى وأوروبا الشرقية: التحالفات الذكية

تُعد دول آسيا الوسطى، وخاصة أذربيجان وتركمانستان وأوزبكستان، أسواقًا ذات أولوية.
بعد نجاح الأنظمة التركية في حرب ناغورنو كاراباخ عام 2020، ارتفعت ثقة هذه الدول في الصناعات التركية، وأصبحت أسيلسان المورّد الأول في مجالات الرادارات والتشويش والاتصالات العسكرية.
أما في أوروبا الشرقية، فقد نجحت الشركة في اقتحام أسواقٍ كانت حكرًا على الصناعات الغربية، بفضل مرونة التسليم والأسعار التنافسية والتكامل مع المنصات الغربية.

3. أمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا: الجيل الجديد من الشراكات

في 2025، أكد رئيس مجلس إدارة الشركة، أحمد أكيول، أن أمريكا اللاتينية، وتحديداً البرازيل، هي منطقة تركيز استراتيجي، وأن معرض LAAD 2025 هو منصة أساسية لإنشاء شراكات جديدة وتوسيع التعاون في التحديث، الأسلحة الموجهة بدقة، وتقنيات السلامة العامة.
تساهم أسيلسان في برامج تحديث عسكرية إقليمية، مثل تطوير دبابات Leopard 2A4CHL للجيش التشيلي، من خلال دمج أنظمة تحكم إلكترونية جديدة في إطلاق النار، كما افتتحت الشركة مكتبًا محليًا في سانتياغو، تشيلي في أبريل/ نيسان 2024، ليكون مركزًا للعمليات ودعم المشاريع والتكامل التكنولوجي في المنطقة.

4. هوية عالمية.. بروح تركية

رغم توسعها الجغرافي، تحافظ أسيلسان على جوهرها الوطني.
شعارها الجديد “إبقاء الزبون راضيًا” يجسد فلسفة ترتكز على الجمع بين الاعتمادية العالية والثقة في المورد، وهما ميزتان تفتقر إليهما العديد من الشركات المنافسة في الصناعة الدفاعية.
ولذلك، فإن الدول التي تتعامل مع أسيلسان لا تشتري منتجات فقط، بل تشتري شراكة قائمة على الثقة المتبادلة والاستقلالية السيادية.

الفصل الرابع: الشراكات الدولية.. بين التعاون والتنافس

في خضم التحول العالمي في الصناعات الدفاعية، استطاعت أسيلسان أن توازن بدقة ما بين سياسة التعاون الدولي والحفاظ على الاستقلال التقني، وهي معادلة معقدة قلّما نجحت فيها شركات الدفاع الأخرى.
فعلى عكس كثير من الشركات التي تعتمد كليًا على تراخيص التكنولوجيا الغربية، بنت أسيلسان علاقات قائمة على الندية والتكامل، لا التبعية.

1. الشراكة مع كوريا الجنوبية.. نموذج للتكامل الصناعي

يُعد التعاون بين أسيلسان وشركات كوريا الجنوبية مثل Hanwha وHyundai Rotem أحد أنجح النماذج في العقد الأخير.

وقّعت الشركة، في عام 2025، مذكرة تفاهم مع شركة Hanwha Aerospace لدمج نظام الكشف عن إطلاق النار “SEDA 100” في مركباتها المدرعة من الجيل التالي. كما قدمت Hyundai Rotem مساعدة في مشروع دبابة Altay التركية.

تمثل هذه التعاونات شراكة استراتيجية متبادلة، حيث تستفيد تركيا من الخبرة الصناعية الكورية، فيما تقدم أسيلسان حلولًا إلكترونية متفوقة عززت أداء منصات كوريا البرية والبحرية.

2. الانفتاح العربي.. نقل التكنولوجيا لا بيعها

خلال السنوات الأخيرة، اتخذت أسيلسان خطوات مهمة في العالم العربي، خاصة مع السعودية والأردن وقطر.
أبرمت الشركة اتفاقيات لإنتاج أنظمة مراقبة متقدمة محليًا، وتطوير محطات أسلحة يتم تركيبها على العربات المدرعة.
هذا النهج يختلف عن النموذج الغربي التقليدي القائم على تصدير المنتجات؛ فأسيلسان تسعى إلى بناء القدرات الدفاعية المحلية لدى شركائها.


إنها لا تبيع شركاءها التكنولوجيا فقط، بل تمنحهم القدرة على إنتاجها وتطويرها مستقبلًا، مما يعزز من مكانتها كمصدر ثقة في المنطقة.

3. التحالف الأوروبي – التركي في ظل التنافس الجديد

بعد الحرب الأوكرانية، شهدت أوروبا طفرة غير مسبوقة في الإنتاج الدفاعي.
في هذا السياق، وجدت أسيلسان نفسها في بيئة تنافسية شديدة، لكنها لم تتراجع، بل دخلت السوق الأوروبية من الباب التقني.
قدمت حلولًا إلكترونية مدمجة متوافقة مع المعايير الأوروبية، وشاركت في مشاريع مشتركة مع شركات من بولندا وهنغاريا.
هذه الخطوة رسّخت موقعها كمنافس واقعي، لا كطرف خارجي، ضمن النظام الصناعي الدفاعي الأوروبي الجديد.
وفي الوقت ذاته، تجنبت أسيلسان الدخول في صدامٍ تجاري مع الغرب، محافظةً على سياسة “التعاون حين يخدم السيادة”.

تابع..

The post خمسون عامًا من الحماية.. وخمسون عامًا قادمة من الريادة – الجزء الأول appeared first on Defense Arabia.

إرسال تعليق

0تعليقات
إرسال تعليق (0)

#buttons=(Accept !) #days=(20)

Our website uses cookies to enhance your experience. Learn More
Accept !
To Top