دفاع العرب Defense Arabia
العميد صلاح الدين الزيداني الأنصاري
برزت خلال النزاعات والحروب الحديثة والعمليات غير المتكافئة أسلحة جديدة غير تقليدية ومن تلك الأسلحة القنبلة الخرسانية وتعرف أيضا بالأسمنتية وهي إحدى تطبيقات الأسلحة الموجهة عالية الدقة (Precision Guided Warfare)، وهي في الواقع تحول مفاهيمي من “التدمير الكاسح” إلى “الضربات “الجراحية الدقيقة” وتكمن قيمتها الاستراتيجية في قوتها وقدرتها على تحقيق أهداف تكتيكية وعملياتية دقيقة في بيئات معقدة (مثل البيئات الحضرية) مع الحد الأدنى المقبول سياسياً وأخلاقياً من الأضرار الجانبية.
تنتمي القنابل الخرسانية الى أسلحة الطاقة الحركية وهي ذخائر جوية خاملة لا تحتوى على رأس حربي تقليدي وغير مزودة بمادة متفجرة كالـ (TNT أو HMX) وتعتمد بشكل كامل على مبدأ الطاقة الحركية التي تكتسبها خلال مرحلة طيرانها بعد إسقاطها نحو الهدف وتدمر أهدافها عن طريق قوة الإصطدام الهائلة التي تنتج عن سرعة القنبلة وكتلتها , محدثة موجة إختراق وتفجير قوية ومركزة.
الفكرة والمفهوم:
فكرة القنابل الخرسانية موجودة منذ عقود وقد كانت تستخدم لأغراض التدريب , ولا يوجد لها وصف مميز في شكلها العام فهي في الأساس قذائف جوية تستخدام حاويات جاهزة (مثل عائلة JDAM أو قنابل GBU-12) يتم تعبئتها بمادة كثيفة وخاملة كالأسمنت المسلح – وهو أسمنت ذو قوة عالية يحتوي على 95 إلى 100% كلنكر(مادة أساسية رابطة يصنع منها الأسمنت وتكون على شكل حبيبات صخرية رمادية اللون) ومكونات ثانوية مضافة لتقويته أو مواد معدنية ثقيلة – بدلاً من المادة المتفجرة ويتم تزويدها بأنظمة توجيه ( نظام قصور ذاتي INS , نظام تحديد مواقع GPS , توجيه ليزري) لضمان الدقة العالية في التوجيه وتنفيذ الضربات وهو أسلوب مذهل أبتكره وأستخدمه الأمريكان والفرنسيون.
مفهوم القنابل الخاملة تطور ليلائم متطلبات الحرب الحديثة وأنظمة التوجيه الدقيقة وذلك لتنفيذ ضربات مؤثرة وقوية موجهة مع تقليل الضرر الجانبي وزيادة السلامة.
لا تندرج القنابل الخرسانية ضمن الأسلحة المحرمة دولياً على إعتبار أن الأداة القاتلة في هذه القنابل هي الكتلة والسرعة (الطاقة الحركية) وهي سلاح مقيد ومتحكم فيه ولا تحتوي على أية مواد كيميائية أو بيولوجية أو متفجرة غير تقليدية , وهذا ما يمنحها الشرعية العملياتية في نزاعات مثل ليبيا، حيث تكون سمعة التحالف الدولية وعواقب الضرر الجانبي لها وزن استراتيجي وسياسي كبير.
متى استخدمت القنابل الأسمنتية لأول مرة؟
تعد الولايات المتحدة من أول الدول التي استخدمت قنابل خرسانية موجهة ضد أهداف عراقية في التسعينيات للعمل على (تقليل الضرر الجانبي) وتجنب قتل المدنيين وضرب أهداف دقيقة ذات حساسية مدنية عالية وذلك خلال تحديد مناطق حظر الطيران في العراق التي طبقت وفقا لقرارات الأمم المتحدة
وكانت هذه القنابل بمثابة أدوات تدريب أُعيد استخدامها لتدمير أهداف حقيقية وكانت تلك القنابل تزن 500 أو 1000 أو 2000 رطل، ولم تكن تنفجر عند اصطدامها بمركبة معادية، بل كانت تنقل طاقتها الحركية إليها , وكان هذا كافيًا لتدمير حتى المركبات الكبيرة كالدبابات دون الإضرار بالأشخاص القريبين منها.
وهذه الاستخدامات غالباً ما كانت تتم في إطار عمليات محدودة أو سريّة، ولم تحظ بالمتابعة الإعلامية ولا تزال أمريكا حتى اليوم تستخدم القنابل الخرسانية في التدريبات والمهام العملية.
أول استخدام عملياتي موثق لهذا الصنف من القنابل الجوية والبدء بإستخدامها كأدوات قتالية فعلية كانت من قبل قوات حلف الناتو وفرنسا بشكل خاص خلال أبريل 2011 في عملية هارماتان، وهي المساهمة الفرنسية ضمن عملية “الحامي الموحد” التابعة لحلف شمال الأطلسي (الناتو) حيث بدأت الطائرات الفرنسية بتنفيذ غارات جوية وإسقاط قنابل خرسانية موجهة بوزن 300 كجم بدلاً من القنابل الحقيقية على دبابات وعربات وجنود الجيش الليبي ، من ارتفاع آلاف الأقدام لها إمكانية سحق دبابة ثقيلة دون إحداث انفجار هائل متشظي قد يقتل الكثير من الناس.
ولذلك فمن حيث القوة التدميرية تعتبر القنبلة الأسمنتية أضعف بكثير من حيث القوة التدميرية المطلقة للقنابل التقليدية ، لكنها أقوى بكثير من الناحية العملياتية والسياسية ويتطلب السماح بإستخدامها قواعد اشتباك صارمة, وبما أنها تعتمد على الطاقة الحركية فإن قوتها التدميرية ترتكز على ثلاثة نقاط :
- القتل والتعطيل المباشر: وذلك بتدمير الهدف عبر الاختراق والتحطيم لأن القنبلة عندما تسقط من ارتفاع عالٍ تكتسب سرعات نهائية عالية (قد تتجاوز سرعة الصوت)، وهذا يجعلها قادرة على اختراق سقف أو جسم أية عربة مدرعة وتحطيم محتوياتها وما فيها من ذخائر.
- تدمير وإعاقة الهدف : ومع أنه لا يوجد انفجار تقليدي للقنبلة يكون الدمار موضعياً في نقطة الاصطدام وما حولها مباشرة ومعيقا للهدف لشكل مباشر.
- الضرر الجانبي المنخفض : لغياب الانفجار التقليدي والتشظي تقل إلى حد كبير جداً الخسائر المدنية المحيطة بالهدف مباشرة لأن الغرض محدد بهدف بعينه وهذه هي الميزة الأهم لها.

الاستخدام العملياتي للقنابل الأسمنتية.
ينبع الإستخدام العملياتي للقنابل الخرسانيةمن عقيدة عسكرية حديثة شاعت مؤخراً في الغرب، وتحديداً دول الناتو، وهي عقيدة “تقليل الخسائر الجانبية” وهي في حد ذاتها ليست نظرية قتالية عامة، بل فلسفة لضبط استخدام القوة، تدمج بين الالتزام العسكري والقانوني والسياسي , والهدف الأساسي منها تحقيق تدمير الأهداف العسكرية (مركبات، دبابات , مدافع) بأقل قدر ممكن من الضرر للمدنيين والممتلكات المدنية المحمية بموجب القانون الدولي الإنساني.
وتعتبر القنابل الخاملة (الأسمنتية) أداة مثالية لتطبيق هذه العقيدة، فهي توفر دقة التوجيه مع قوة تدميرية حركية موضعية ودقيقة مما يزيل خطر الانفجار وإنتشار الشظايا الواسع النطاق، وبالتالي يقلل احتمال تحويل ضربة قانونية إلى جريمة حرب أو كارثة إنسانية أو أزمة سياسية.
ويخضع إستخدامها أيضاً لقواعد الإشتباك وهي الأوامر والتعليمات التي تحدد الظروف والقيود التي يمكن بموجبها استخدام القوة. وتبيح قواعد الإشتباك لقوات التحالف التي أعتمدت خلال الحرب في ليبيا إستخدام القنابل الخرسانية بشرطين أساسيين مستمدين من القانون الدولي الإنساني:
الأول هو الضرورة العسكرية ويعني أنه يجب أن يكون الهدف ذا قيمة عسكرية محددة، ويحقق تدميره ميزة عسكرية واضحة.
والثاني هو التناسب بحيث يجب أن تكون الميزة العسكرية المتوقعة من الهجوم أكبر من الخسائر المدنية المتوقعة والضرر الجانبي.
ونظراً لأن التفويض الأممي كان نظرياً “لحماية المدنيين” في ليبيا (مع أنه عمليا خالف ذلك مرات عدبدة )، فإن القنبلة الأسمنتية تسمح للطيار المقاتل بالوفاء بشرط التناسب في حالات عالية الحساسية (مثل استهداف عربة أو مدفع بين مبانٍ سكنية)، حيث لا تسمح قواعد الاشتباك باستخدام قنبلة متفجرة.
مدى النجاح العملياتي للقنابل الأسمنتية.
إستخدام القنابل الأسمنتية في حرب ليبيا 2011 بشكل رسمي معلن ومتكرر وضعها في دائرة الضوء كأداة أساسية لتقليل الخسائر الجانبية والخسائر المدنية وفقاً لعقيدة تقليل الضرر الجانبي المطبقة من قبل دول الناتو في النزاعات ذات الحساسية العالية للمساءلة الدولية، وكان تأثيرها العملياتي على أهداف حية في ليبيا فعالاً جداً لتحقيق أهداف تكتيكية محددة، مما جعلها عنصراً أساسياً في مفهوم “الاشتباك الحذر” الذي تبناه حلف الناتو في هذا الصراع.
ونظراً لأن قوتها وفعاليتها تعتمد كلياً على دقة التوجيه فإذا ما أخطأت الهدف ولو بأمتار قليلة، فلن يكون لها أي فعالية تدميرية تذكر مقارنة بالقنبلة المتفجرة , فقد ساعدت هذه الذخائر الناتو على التدقيق في الأهداف المستخدمة ضدها هذه القنابل فبدلاً من إلغاء ضربة على مدفع مضاد للطائرات أو راجمة صواريخ تم وضعها بجوار مستشفى أو مدرسة، يمكن استخدام القنبلة الخرسانية وتدمير الهدف بدقة متناهية مع تقليل مخاطر إصابة المرافق المدنية المجاورة أو المدنيين بشكل كبير.
خلال فترة الحرب قصفت أهداف ذات قيمة عالية داخل المدن بالقنابل الخرسانية وكان من أهمها مبنى هيئة الرقابة الإدارية في العاصمة طرابلس وكان اللافت هو إنتشار غبار وذرات الأسمنت بشكل كثيف حول المبنى مع عدم تعرضه للإنهيار بشكل كامل كما أستهدفت نقاط تمركز لبعض آليات ووحدات الجيش في زليتن ومناطق أخرى حيث تخترق القنبلة الأسمنتية سقف مركبة عسكرية (كشاحنة أو ناقلة جنود مدرعة خفيفة) بسرعة عالية، مما يؤدي إلى تدميرها وتعطيلها وقتل أو إصابة طاقمها بالصدمة والاصطدام، دون التسبب في انفجار ثانوي للمركبة.
وقد صرح المتحدث باسم الجيش الفرنسي آنذاك بأن الهدف من استخدام هذه الذخائر كان استغلال تأثير الاصطدام مع الحد من مخاطر الأضرار الجانبية ، مشيراً إلى أنها تُحدث ضربة دقيقة جداً مع قليل جداً من الشظايا , وقد تم الإبلاغ عن استخدامها لأول مرة لتعطيل مركبات مدرعة في 26 أبريل 2011 وجاء إستخدامها لتعزيز صورة المشاركة الفرنسية كقوة تلتزم بأعلى معايير الدقة لتقليل الخسائر المدنية في نزاع دولي يخضع لمراقبة الأمم المتحدة.
ومن المرجح أن تكون الولايات المتحدة أيضاً قد أستخدمتها خلال الحملة أو على الأقل وفرت هذه التقنية كما تولت توفير أنظمة القيادة والإستخبارات لقيادة العملية.
حاويات القنابل الأسمنتية (MK / GBU).
القنابل الأسمنتية تستخدم أوعية قنابل MK أو حاويات قنابل GBU وعادة ما يتم استخدام هياكل قنابل قياسية مثل MK-82 (بوزن 500 رطل) أو MK-83 (بوزن 1000 رطل)، ويتم تزويدها بمجموعات توجيه GBU (مثل GBU-10/12/49). الفرق الوحيد هو ملء الوعاء بالخرسانة بدلاً من المادة المتفجرة.
وتستخدم العديد من الدول قذائف تدريب ذات وزن مماثل للذخائر الحية، ثم تضيف إليها نظام توجيه فعلي لاستخدامها في العمليات الفعلية وهذا هو ما فعلته فرنسا في ليبيا باستخدام قذائف تدريب 300 كغ.
وتستخدم أيضاً القنابل ذات القطر الصغير كقنابل موجهة حركية خاملة لتعطيل الأهداف بدقة فائقة دون أي انفجار يذكر.
التقنية الأساسية للقنابل الأسمنتية متاحة نظرياً لأي دولة، إذ أن ملء القنبلة بالأسمنت أمر متاح وبسيط، لكن جعلها تصطدم بفتحة سقف مركبة متحركة بشكل دقيق يتطلب نظم توجيه متقدمة متحكم فيها مثل (GPS/INS أو ليزر) وهذه الأمور لا تتوفر للكثير من الدول وهذا ما يجعل هذا النوع من الأسلحة غير متاحة للعديد من الجيوش في العالم.
ولذلك يقتصر إمتلاكها على الدول التي تمتلك تكنولوجيا القنابل الموجهة بدقة مثل الولايات المتحدة، فرنسا، المملكة المتحدة، روسيا، والصين وهي فقط القادرة على إنتاج واستخدام هذه الذخائر بفعالية عملياتية.
جدول يوضح الفرق بين تأثير القنابل الأسمنتية والقنابل التقليدية
مشاهدة محاكاة لقنبلة خرسانية تدمر سيارة، شاهد فيديو ناشيونال جيوغرافيك أدناه.
The post القنابل الخرسانية “الأسمنتية” وصياغة مفاهيم منع الضرر الجانبي appeared first on Defense Arabia.