دفاع العرب Defense Arabia
في عالم الأمن والدفاع اليوم، ليس الجندي المجهول الحقيقي من يحمل البندقية، بل من يحمل فكرة جديدة، ويُطلق إبتكاراً ثورياً يعيد تعريف المواجهات ومفاهيم القتال. فمؤشرات وعوامل الإنتصار لا تصنعها فقط شجاعة الرجال في الميدان، بل أيضاً عقول الخبراء والباحثين الإستثنائيين، الذين يطلقونها باكراً في المختبرات قبل إندلاع القتال على الجبهات.

تُنفق الشركات العالمية الكبرى لصناعة السلاح والتكنولوجيا العسكرية جزءًا مهمًا من ميزانيتها على البحث والتطوير (Research & Development) لكن النسبة تختلف كثيرًا بين شركة وأخرى، وتتأثر هذه النسبة بثلاثة إعتبارات:
- طبيعة المنتجات (إذا كانت معدات أو منصات ضخمة أو إلكترونيات وبرامج عسكرية).
- مصدر التمويل ( إذا كانت الأبحاث مُمَوَّلة من الحكومة أو العملاء- customer-funded أو من الشركة نفسها(company-funded .
- حجم الأنشطة التجارية والعقود المبرمة (وهي التي توجِّه وتساهم في جهود الأبحاث والتطوير).

يقود عملية البحث والتطوير نخبة من العلماء والمهندسين الذي يتمتعون بكفاءات وخبرات عالية جداً في مجال العلوم والتكنولوجيا العسكرية، وتوجِّه الشركات جهودها في الأبحاث والتطوير من خلال إعتبارات أساسية أبرزها أولاً طلبات الزبائن والمتعلقة بأنواع وميزات محددة من القدرات العسكرية النوعية ( مثل طائرات الجيل السادس، الصواريخ فرط صوتية)، وثانياً متطلبات الأمن والدفاع الحديثة، والتي تبرز من خلال المعضلات والحاجات إلى قدرات معينة مطلوبة تظهر خلال الحروب والصراعات الماثلة (مثل قدرات دفاع جوي متطورة ضد الصواريخ فرط صوتية وضد المسيرات) وهذا ما يقدره ويحدده الخبراء والباحثون في الشركات، وعلى أساسها يُتَّخذ القرار في توجيه جهود البحث والتطوير، وتحديد الميزانيات في هذا الخصوص.
في ظل عدم توافر معلومات وارقام دقيقة عن جهود البحث والتطوير في شركات الأسلحة الروسية والصينية، إليكم نسبة الإنفاق في أبرز شركات صناعة الأمن والدفاع الغربية في العام 2024، وذلك وفقاً لمصادرها المُعلنة:
- Boeing: 3.81 مليار دولار.
- RTX :2.934 مليار دولار.
- : Northrop Grumman 2.8 مليار دولار.
- : Lockheed Martin 1.6 مليار دولار.
- : General Dynamics 565 مليون دولار.
تتراوح نسبة الإنفاق على الابحاث والتطوير ما بين 2.5% إلى 9% من مجمل إيرادات الشركات، وعلى الرغم من عدم ثبات هذه النسبة السنوية، إلا ان إرتفاعها يشير إلى أن الشركة لديها رؤية مستقبلية طموحة، وأنها تسير على الطريق الصحيح بإتجاه تأمين مركز مرموق في سوق تجارة السلاح والتكنولوجيا العسكرية على المستوى العالمي.
تركِّز معظم نشاطات البحث والتطوير في الشركات المذكورة على مجالات الأنظمة القتالية المستقلة، تكنولوجيا الطائرات، الفضاء، الذكاء الإصطناعي، الصواريخ والدفاع الجوي، المستشعرات والأمن السيبراني، ونلاحظ عدم التركيز أو الإهتمام بالبحث والتطوير في أنظمة القتال البرية والبحرية، ويعود السبب في ذلك أن السيطرة الجوية والفضائية لها الأفضلية حيث أنها تتحكَّم بشكلٍ كبير بمجريات المعركة البرية أو البحرية، كما أن الهجمات الإلكترونية والحرب السيبرانية تشكِّل أولوية وإهتمام جدِّي لما تشكِّله من مخاطر في سياق الحروب الهجينة.

أما ما هو أهم من كل ذلك، فهو الذكاء الإصطناعي العسكري، الذي سيقود حروب المستقبل والتشكيلات القتالية وتوزيع وضبط النيران، وسيكون ذلك عبر الأنظمة القتالية المستقلة في الجو والبر والبحر، كما سيقود أيضاً أنظمة القيادة والسيطرة وإتخاذ القرار الصحيح وتوجيه الأوامر، وسيكون ذلك في المستويات التكتية والعملياتية والإستراتيجية كافة، والجدير ذكره هنا أن المجال العسكري يستفيد كثيراً من الابحاث المدنية في مجال الذكاء الإصطناعي، فكل قدرة أو ميزة جديدة يتم إكتشافها أو تطويرها، يمكن إستنساخها والإفادة منها عسكرياً، لذلك سنشهد في المستقبل القريب تطوراً كبيراً وخطيراً في مجال الذكاء الإصطناعي العسكري، وستفرض الشركات المهتمة والتي تحقق نجاحات في هذا المجال هيمنتها على سياقات تطوير الأسلحة والمعدات العسكرية، وبالتالي ستكون لها الحصة الأكبر في سوق تجارة الأسلحة على المستوى الدولي.
يقابل جهود البحث والتطوير والنجاح في خلق قدرات وإبتكارات عسكرية جديدة، حاجة ضرورية لإستكمال هذا النجاح وتحقيق أهداف الشركات، ونقصد هنا عملية الإعلان والتسويق لأي منتج جديد أو منتج تم تطويره وفقاً لمتطلبات مستجدة وخصائص حديثة، وعملية التسويق والإعلان للمنتجات العسكرية مختلفة تماماً عن التسويق والإعلان لأي منتج مدني، ويعود السبب في ذلك لكلفة المنتج الباهظة، وللمنافسة الشديدة على مستوى الدول والشركات، وأخيراً والأهم، إختبار المنتج، فالعملية الصحيحة للإختبار والتأكد من فعالية الأجهزة والمعدات، ومعرفة نقاط قوتها وضعفها، غير ممكنة إلا في ظروف حرب حقيقية ومن خلال مواجهة أسلحة منافسة أخرى، لذلك نلاحظ أن النجاح في الإستخدام والفعالية المُثبتة في الحروب والمعارك، هي المحفِّز الأول للإقبال الشديد على شراء معدات قتالية وإكتساب قدرات عسكرية محددة، ونعطي مثالاً على ذلك: الصاروخ الفرنسي المضاد للسفن Exocet ، والذي حقق شهرة واسعة بعد إستخدامه الناجح في حرب الفوكلاند عام 1982، بعد ان أصاب وأغرق المدمرة البريطانية HMS Sheffield، وقد بيع من هذا الصاروخ أكثر 4 آلاف قطعة، واعتمدته 36 دولة في ترسانتها المسلحة، ايضاً المسيرة التركية بيرقدار TB2، التي ساهمت بشكلٍ كبير في الإنتصار الذي حققه الجيش الأذري في معركة ناغورني كراباخ ضد القوات الأرمينية عام 2020، حيث تم بواستطها تدمير الدفاعات الأرمينية على كامل الجبهة، وبعد هذا النجاح، طلبت 27 دولة شراء كميات كبيرة من هذه الطائرات، وابرز هذه الدول بالإضافة إلى اذربيجان: قطر، الإمارات العربية المتحدة، المغرب، باكستان، أوكرانيا، بولندا، رومانيا، كوسوفو، نيجيريا. نأتي أخيراً في مجال شهرة الأسلحة، إلى المقاتلة الاميركية الحديثة F‑35 Lightning II، والتي تعتبر من افضل الطائرات المتعددة المهام من الجيل الخامس، وهي استخدمت بنجاح كبير في سوريا والعراق وافغانستان وغزة واليمن وإيران، أثبتت هذه المقاتلة أنها ليست مجرد طائرة عادية، بل منصة معلوماتية قادرة على جمع وتحليل البيانات وتوجيه ضربات دقيقة، وقادرة على الإندماج والعمل ضمن منظومة قتالية كبيرة ومعقدة، لذلك نلاحظ أنها مرغوبة عند الكثير من الدول، لا سيما دول الناتو، وحتى تاريخ كتابة هذا التقرير، تكون شركةLockheed Martin قد سلمت 1245 طائرة منها لأكثر من 20 دولة.

ترغب الكثير من الشركات والدول في زج إنتاجها العسكري وخبراتها في الحروب والمعارك، ليتم تجربتها والتحقق من فعاليتها وإكتشاف نقاط القوة والضعف فيها، والهدف من ذلك إظهار الإثباتات والقدرات العملية لهذه المنتجات، والتسويق لها من خلال ما حققته في ميدان المعركة وفي المواجهات الحقيقية مع الأعداء، فبعضها يحقق التفوق ويؤكد نجاحه وفعاليته، وبعضها الآخر يفشل وينسحب من المعركة، وأيضاً من المنافسة في سوق تجارة السلاح.

البحث والتطوير في صناعة الأمن والدفاع ليس مجرد عملية إستثمار في معدات وتجارة مربحة، بل إستثماراً في صناعة مستقبل الأمن والسيادة الوطنية، فمن يهتم به يضمن تفوقه وإستقلاله الأمني، ومن يهمله يبقى زبوناً ورهينة لتفوُّق الآخرين، وحذاري من التسويق الذي يبيع سرديات وعناوين براقة دون إثباتات حقيقية، فمسارح القتال والمواجهات هي السوق الحقيقي للمنافسة.
The post الأبحاث والتسويق في إستراتيجيات شركات صناعة الأمن والدفاع appeared first on Defense Arabia.