دفاع العرب Defense Arabia
العميد صلاح الدين أبوبكر الزيداني الأنصاري
منذ القدم وقضية التحلي بأخلاقيات الحروب والإلتزام بمباديء محددة تحترم الخصم وتدعو للقتال بشرف تؤرق المحاربين ففي مختلف الحروب التي مرت بها البشرية إختلفت القيم والمباديء التي تنظم مجرياتها , ومع أن الحروب القديمة كانت دموية وقاسية، إلا أن العديد من الحضارات حاولت تقنينها أخلاقيًا، سواء عبر الدين أو الفلسفة أو الأعراف ونجحت في ذلك حتى أصبح هناك شكل متعارف عليه لأخلاقيات الحرب لتكون لاحقاً مواثيق ومباديء إعترف الجميع بها وساهمت في تشكيل قوانين الحرب الحديثة حتى ظهور ما يعرف بقواعد الإشتباك وقواعد مبدأ التمييز المعمول بها حاليًا.
ترتبط قواعد الاشتباك ومبدأ التمييز في العمليات القتالية إرتباطاً وثيقاً مع بعضهما فهما تشكلان الركيزة القانونية والأخلاقية التي تحكم استخدام القوة العسكرية في العمليات القتالية بشكل عام وتعد أساساً مهماً لتنظيم استخدام القوة العسكرية في ميادين القتال وتقليل الأضرار التي تلحق بالمدنيين والمنشآت المدنية بما يضمن الالتزام بالأعراف الدولية وقواعد القانون الدولي الإنساني خلال العمليات العسكرية.
وتهدف كلاهما إلى تنظيم استخدام القوة بشكل قانوني وعسكري وأخلاقي لضمان التحكم والسيطرة أثناء العمليات وتقليل الأضرار الجانبية كما أنها من المفترض أن تساعد على حماية المدنيين والأهداف المحمية بموجب القانون الدولي.
مفهوم قواعد الاشتباك.
تعمل قواعد الاشتباك لتكييف ظروف العمليات العسكرية وتقليل العنف غير الضروري ضمن إطار القانون الدولي الإنساني ويتم من خلالها التحكم في العمليات القتالية بطريقة تحافظ على الجوانب القانونية والأخلاقية في الحرب إضافة إلى كونها مصطلح جامع يحمل ابعاداً سياسية وعسكرية واستراتيجية تنظم استخدام القوة في الحروب والنزاعات المسلحة من جهة، مع توفير حماية للمدنيين وأسرى الحرب من جهة أخرى , وهي كقواعد من الجائز أن تختلف من جيش إلى آخر وفقاً لمتطلبات العمليات الحربية والظروف السياسية والعسكرية.
كما أنها تهدف إلى توفير تفويض قانوني للقوات المسلحة لاستخدام القوة بشكل منضبط، وتقليل الأخطاء، وضمان الالتزام بالقوانين الوطنية والدولية.
مبدأ التمييز.
هو أحد المبادئ الأساسية في القانون الدولي الإنساني الذي يُلزم الأطراف المتحاربة بالتمييز الدقيق بين المقاتلينالذين يشاركون بشكل مباشر في الأعمال العدائية، وبين الأشخاص المدنيين والعاملين مع القوات المسلحة أثناء العمليات القتالية , وأيضاً بين الأهداف العسكرية والمنشآت المدنية التي يحظر الإعتداء وشن الهجوم عليها , وهو يلزم الأطراف المتحاربة بتوجيه العمليات القتالية فقط ضد المقاتلين والأهداف العسكرية المشروعة وحظر الهجوم على المدنيين والمنشآت المدنية وإتخاذ كافة الاحتياطات الممكنة لتجنب إلحاق الأذى والضرر بهم.
وتعد مسؤولية تطبيقه القاعدة الأهم في مبدأ التمييز حيث تقع على المسؤلية المباشرة على عاتق كل مقاتل وقائد لضمان الإلتزام بها مع الإستمرار في تلقين المبدأ لهم خلال العمليات وتقييم الوضععبر إجراءات استخباراتية ومراقبة مستمرة بما يضمن ذلك قبل وأثناء كل استخدام للقوة.
وتقوم العلاقة بين القاعدتين أي قواعد الإشتباك ومبدأ التمييز على أساس أن قواعد الاشتباك هي الأداة العملية التي تستخدمها القوات العسكرية للإلتزام بتطبيق مبدأ التمييز والمبادئ الأخرى للقانون الدولي الإنساني , وأن مبدأ التمييز هو الإطار الذي يوفر القاعدة القانونية والأخلاقية لتوجيه قواعد الإشتباك ، حتى تظهر بشكل منضبط وقانوني على أرض الواقع وفقاً لأوامر وسياسات عسكرية محددة تعزز السيطرة على العمليات العسكرية وتساهم بشكل كبير في حماية حقوق الإنسان بقدر الإمكان خلال حالات الحروب والنزاعات المسلحة المعلنة وغير المعلنة.
المبادئ الأساسية لقواعد الاشتباك.
هناك عدة مبادئ أساسية في قواعد الاشتباك ينبغي تطبيقها والإلتزام بها لتحقيق الغاية منها وهي :
- عدم الإفراط في إستخدام القوة مع مراعاة أن تكون متناسبة مع ماهية التهديد أو الهدف المعادي.
- عدم التعرض للأشخاص المدنيين والمنشآت المدنية ما لم يتأكد إستخدامها للأغراض العسكرية.
- إعطاء تعليمات واضحة ومحددة للتعامل بالحسنى مع المدنيين وأسرى الحرب في مواقع العمليات.
- مراعاة إستخدام إطلاق النار التحذيري والتنبيه قبل الاشتباكات الفعلية والتأكيد على حماية الأنفس.
- تنفيذ رقابة صارمة من مختلف المستويات والسيطرة على المقاتلين لتفادي التجاوزات وعدم الوقوع في مخالفات قد ترقى لفعل جرائم حرب تستدعي المساءلة القانونية.
القواعد العامة لمبدأ التمييز.
تضمن قواعد مبدأ التمييز الالتزام بالقانون الدولي الإنساني, وتتولى قيادة القوات إصدار تعليمات وقواعد ميدانية وتشمل ما يلي:
– تفاصيل عن نوع الأهداف، والظروف التي تسمح بقيام الهجوم والوسائل المقبولة للاستخدام.
– كيفية إستخدام القوة بشكل قانوني وأخلاقي، للمحافظة على التوازن بين تحقيق الأهداف العسكرية وحماية المدنيين.
– القيام بوضع خطط تدريبية للقوات تحاكي بيئات العمليات للتعرف على قواعد مبدأ التمييز وأهمية الالتزام بها.
– جمع المعلومات الميدانية الدقيقة لتحديد الأهداف بدقة باستخدام الوسائط الحديثة والمصادر المتاحة قبل وأثناء تنفيذ العمليات.
– تحديد تسلسل إطلاق النيران والتحكم في أوامر القتال مع تحديد مناطق الأمان والمدنيين لتقليل المخاطر.
– إجراء تقييم مستمر للجهات المسؤولة عن مراقبة تنفيذ قواعد التمييز وإحالة أي مخالفة للتحقيق وتوجيه أوامر واضحة وعملية للقادة الميدانيين لمراعاة ذلك.
– تقييم الأضرار المحتملة للمدنيين والمنشآت المدنية قبل البدء في العمليات القتالية.
– ضرورة إعطاء تحذير مسبق للمدنيين في المناطق التي قد تتأثر بالهجمات لإتاحة الفرصة للمدنيين لاتخاذ الإجراءات اللازمة لحماية أنفسهم.
– يجب على أطراف في النزاع الامتثال للقوانين الدولية، بما في ذلك اتفاقيات جنيف وبروتوكولاتها الإضافية كونها توفر إطارًا قانونيًا لحماية الأشخاص والمنشآت المدنية خلال الحروب والنزاعات المسلحة.
قواعد الاشتباك في حرب غزة 2023.
تواجه قواعد الاشتباك ومبدأ التمييز في النزاع المسلح في قطاع غزة تحديات بالغة التعقيد، فحالة الحرب عناك حرب ونزاع مسلح في آن واحد والقطاع منطقة حضرية مكتظة بالسكان، مما يجعل تطبيق قواعد الإشتباك ومبدأ التمييز والقانون الدولي الإنساني أمرًا صعبًا يتطلب احتياطات قصوى , خاصة بعد سعى فصائل المقاومة الفلسطينية إلى تثبيت معادلات اشتباك جديدة والرد بما متاح لديها مع الفارق الكبير في نوع وقوة العتاد حيث أصبح قصف مناطق عميقة داخل إسرائيل، مثل تل أبيب، يُعتبر ردًا على استهداف المدنيين المستمر في القطاع.
لم تلتزم اسرائيل بشكل صارم بالعمل بقواعد الاشتباك والتمييز في حرب غزة ، بل إنها خفّفت ضوابط تنفيذها بشكل ملحوظ منذ بداية العمليات العسكرية في أكتوبر 2023 , حيث منحت سلطة إصدار أوامر الرماية وإطلاق النار للضباط من الرتب المتوسطة مع عدم الاكتراث بوجود مدنيين معرضين لخطر القتل، ورفع سقف الخسائر المدنية المقبولة في صفوف الفلسطينيين خلال العمليات العسكرية إلى نحو 100 مدني أو يزيد في بعض الضربات المعتمدة من القيادة العسكرية العليا ما أدى إلى توسيع نطاق العمليات وارتفاع غير مسبوق في عدد الضحايا المدنيين الذين استهدفوا بشكل مباشر.
وفقًا لتقارير المركز الفلسطيني للإعلام بلغ عدد القتلى في حرب العدوان على غزة أكثر من46,707 شخصًا منذ بدء الحرب ، مع تصاعد عدد الجرحى إلى أكثر من 110,265 مصابًا بإصابات بليغة وعاهات مستديمة , كما وصل عدد المفقودين إلى حوالي11,160 شخصًا كثير منهم يُعتقد أنهم لا يزالون تحت الأنقاض.
وكذلك نزوح ما لا يقل عن 1.9 مليون شخص، وهو ما يمثل 90% من سكان غزة مع ما يمثله كل ذلك من تأثيرات نفسية وجسدية طويلة الأمد على المدنيين , وهذا الأمر يعد إنتهاك صارخ لمبدأ التمييز بعد القيام جهاراً نهاراً باستهداف المدنيين والمنشآت المدنية مثل المدارس والمستشفيات والمساجد والمنازل واستخدام الأسلحة المحظورة دوليًا في المناطق المدنية لتدمير البنية التحتية المدنية، مثل شبكات الطرق والمياه والكهرباء , وحرمان الناس من السلع والخدمات الأساسية.
لم يتقيد الجيش الإسرائيلي يوما بقواعد الإشتباك ولا بمبدأ التميز خلال حروبه ولم تكن حرب غزة الحادثة الأولى لمثل هذه الإنتهاكات ومع أن الجيش الإسرائيلي يظهر للإعلام بأنه يستخدم وسائل وأساليب “تتفق مع قواعد القانون” حيث يظهر الناطق الرسمي للجيش في قنوات التلفزيون ومواقع التواصل وهو يتبجح بالإلتزام بقواعد الإشتباك ومبدأ التمييز ويوجه تحذيرات للمدنيين من التواجد في مناطق معينة لتفادي الضربات لكن فعليا لم يلتزم الجيش الإسرائيلي بتطبيق تلك المبادي مما أدى إلى خسائر بشرية ومادية جسيمة وتحديات كبيرة أمام تطبيق قواعد الإشتباك والتمييز والقانون الدولي الإنساني كما أظهرت خلافات كبيرة في كيفية تنفيذ القواعد العسكرية ضمن النزاع المسلح بمدن مكتظة بالمدنيين في غياب كامل للضوابط الأخلاقية التي تميز بين القتال المشروع والعدوان الوحشي.
يُعد تجاهل قواعد الإشتباك ومبدأ التمييز خرقًا مباشرًا لاتفاقيات جنيف، خاصة المادة الثالثة المشتركة، التي تحمي المدنيين والمقاتلين غير المشاركين وهذه الانتهاكات قد تُصنّف كجرائم حرب، وتفتح الباب للمساءلة أمام المحكمة الجنائية الدولية , كما أن عدم الالتزام بهذه المبادئ لا يُعد مجرد خطأ عسكري، بل هو انحراف قانوني وأخلاقي يُهدد حياة المدنيين، ويقوّض أسس العدالة الدولية، ويُحوّل الحرب من مواجهة عسكرية إلى كارثة إنسانية كما هو حال غزة العزة اليوم.
The post قواعد الاشتباك ومبدأ التمييز في العمليات القتالية وحرب العدوان على غزة appeared first on Defense Arabia.