دفاع العرب Defense Arabia
مع اقتراب قمة ترامب وبوتين، تتصاعد المخاوف في أوروبا ليس فقط من نتائج اللقاء، بل من الرسائل التي قد يحملها. هذا الخوف ينبع من تاريخ طويل من التوتر والعداء بين أوروبا وروسيا، مزيج من الخوف الاستراتيجي، الصراعات الجيوسياسية، والذكريات التاريخية التي لم تُمحَ.


لا يقتصر الماضي فقط على ذكريات الحرب العالمية الثانية والإكتساح السوفياتي لأوروبا، ولا على ذكريات الحرب الباردة والرعب الذي كان قائمًا في القارة الاوروبية، بل يرتبط بشكلٍ أساسي بالعداء الأوروبي للكنيسة الأرثوذكسية، وهذا العداء يرتبط بالتوترات التاريخية والصراعات بين الغرب (وخاصة الكنيسة الكاثوليكية) والكنيسة الأرثوذكسية الشرقية. هذه التوترات لها جذور عميقة في الانقسامات الدينية والسياسية التي بدأت مع الانشقاق العظيم عام 1054، واستمرت عبر العصور مع تنافس الكنائس على النفوذ والسلطة.

يتجاوز العداء الأوروبي لروسيا حدود السياسة والجغرافيا ليصل إلى جذور ثقافية وروحية عميقة. فالكنيسة الأرثوذكسية الروسية تمثِّل حاضنة للهوية الروحية والثقافية لهذا البلد، ورمزًا يثير خوفًا وقلقًا لدى أوروبا الغربية التي ترى في هذه الحضارة نموذجًا مختلفًا ومنافسًا للنموذج الغربي القائم على الكاثوليكية والبروتستانتية. والكنيسة الأرثوذكسية ليست مجرد مؤسسة دينية، بل هي صمام أمان للهوية الروسية، لا سيما بعد إنتهاء الشيوعية، وهي تحافظ على الخصوصية الجديدة وعلى القيم التقليدية التي تتمسك بها، وتُبرز رفضًا للغربنة الثقافية والسياسية التي تُعتبر تهديدًا لخصوصية روسيا. وعبر التاريخ، تم استخدام الكنيسة الأرثوذكسية لتعزيز الشعور بالاستقلال الروحي والثقافي، وهذا ما يجعلها حجر زاوية في مقاومة النفوذ الأوروبي والغربي، والتي تطرح الحضارة الروسية كنموذج بديل يملك جذورًا حضارية وثقافية عميقة تعود إلى قرون مضت، متأثرة بالتراث السلافي والبيزنطي، وتمثل بديلًا أكثر عقلانية وأكثر محافظة على القيم الأخلاقية وفقًا لرأي السياسيين والفلاسفة الروس. هذا الإختلاف يفسر جزءًا هامًا من الخوف الاوروبي من توسع النفوذ الروسي، ليس فقط سياسيًا وعسكريًا، بل الأهم فكريًا وثقافيًا وأيديولوجيًا. فالغرب ينظر إلى روسيا كخصم لا يتوافق مع الحريات والقيم الليبيرالية والحداثة الغربية.
لم ينفصل الصراع في أوكرانيا عن الخلفيات الدينية بين اوروبا وروسيا، فالمناطق الإنفصالية في الشرق الأوكراني يسكنها غالبية روسية تعتنق الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية وتتحدث اللغة الروسية، وقد ظهر استهداف كييف لهذه الكنيسة في أوكرانيا منذ بداية الأزمة، وكان أبرزها حالة دير كييف “بيشيرسكايا لافرا” ، حيث تم طرد الرهبان هناك بعد إتهامهم بالترويج للدعاية الروسية، وهذا الدير يعتبر من أهم المراكز الروحية الأورثوذكسية في أوكرانيا والعالم، كما تم إخلاء بعض الكنائس التابعة للكنيسة الأورثوذكسية المرتبطة بموسكو بالقوة أو بأوامر قضائية.
لا يمكن فهم التوتر بين أوروبا وروسيا من منظور الخلافات السياسية أو الاقتصادية فقط، بل يحتاج إلى قراءة عميقة في البُعد الثقافي والروحي الناتج عن إنقسام الكنيسة التاريخي والتباعد المستمر في التاريخ الحديث، حيث الكنيسة الأرثوذكسية والحضارة الروسية تلعبان دورًا مركزيًا في تعزيز الهوية الروسية ومقاومة الهيمنة الغربية.
للعداء الأوروبي لروسيا أسباب أخرى عميقة ابرزها:
- تاريخ المواجهات والصراعات من غزو نابليون إلى الحربين العالميتين، وحقبة الحرب الباردة، حملت العلاقات الأوروبية-الروسية سمة الصراع والخصومة. هذه الذاكرة التاريخية لا تزال تؤثر على الفكر الاستراتيجي الأوروبي في مقاربة أمنه وخصوصيته الثقافية والإجتماعية حتى اليوم.
- الخوف من توسع النفوذ الروسي، فالأوروبيون يرون في روسيا منافسًا إقليميًا يسعى لاستعادة مكانته كقوة عظمى، ويخشون أن تؤدي تقاربات مثل قمة ترامب-بوتين إلى تحولات في موازين القوى قد تهمش أوروبا
- الاختلافات السياسية والأيديولوجية، فالأنظمة السياسية في أوروبا الغربية وروسيا تحمل رؤى متباينة حول الديمقراطية، حقوق الإنسان، ونظام الحكم، مما يزيد من فجوة الثقة ويغذي العداء.

لماذا يخاف الأوروبيون من قمة ترامب-بوتين؟
يبدو واضحًا أن ترامب لا يعير إهتمامًا للسياسة الخارجية الأوروبية ولا لمصالحها الخاصة، فهو يُعطي الأولوية للملفات الإقتصادية التي تحقق مصالح الولايات المتحدة الاميركية، وهو يرفض تكبيل سعيه لتحقيق أهدافه بنظريات ومواقف تقليدية متعفنة لا تستطيع تجاوز العقد التاريخية، فترامب رجل جريء وبراغماتي من الدرجة الأولى، يدوس بإصرار على كل مخلفات التاريخ وعقده ويتجاوزها ساخرًا، وهو يريد تحقيق نتائج سريعة في هذه القمة، ويريد وقف الحرب والتوصل إلى إتفاق أو تحقيق بوادر إتفاق مع روسيا، والمستغرب أنه يفاوض بغياب المسؤولين الأوكرانيين والأوروبيين، وهذا يعكس تجاهله لهم وكأنه يريد مقاربة المسألة وسماع وجهة النظر الروسية بعيدًا عن الضجيج الأوكراني والأوروبي، فهل ينجح بوتين في إقناع ترامب بالرواية الروسية؟ وهل سيأخذ ترامب بالإعتبار الإنتصارات الروسية المحققة على الأرض والتي تكاد تشكل المشهد النهائي لهذه الحرب؟
في الوقت الذي تقيم فيه أوكرانيا ومن خلفها أوروبا إعتبارات هامة للكثير من القضايا الخاصة في هذا الصراع، يبدو أن ترامب وفي حديثة عن مسألة تبادل أراضٍ وتغيير خطوط المواجهات، وكأنه يلمح لفرض الواقع العسكري على الأوكرانيين والأوروبيين، مع الإصرار على فرض بعض التنازلات من الجانب الروسي في بعض المناطق ليكون الإتفاق مقبولًا، وفي المقابل، تريد روسيا الإحتفاظ بمعظم المناطق التي احتلتها، لا سيما تلك القريبة من سواحل البحر الاسود، لتحقيق إمتيازات جيوستراتيجية واكتساب نقاط قوة في هذا البحر.

لا تبدو الظروف مؤاتية للأوكرانيين ولا للأوروبيين لفرض إرادتهم على اللقاء المرتقب وعلى عملية التفاوض، فالجيش الروسي يحقق إنتصارات يومية، وهو يتقدم بوتيرة ثابتة منذ زمن طويل، ولا خيار أمام الأوروبيين إلا بالدخول في المواجهة المباشرة مع الروس في حال رفضهم لأي إتفاق بين ترامب وبوتين. مع ذلك، لا يجب أن نحسم مسألة الإتفاق بين الزعيمين في قمة آلاسكا، فقد يقوم ترامب بقلب الطاولة على الروس والتصعيد ضد هذا البلد عسكريًا وإقتصاديًا في حال لم يعجبه الموقف الروسي، ولكن هذا الإحتمال يبدو ضعيفًا إلى حدٍ كبير. أما ماذا سينتج عن إي إتفاق محتمل بين ترامب وبوتين؟ فهذا سؤال يدور في أذهان معظم القادة وصناع القرار الأوروبيين، فهم يخشون من اتفاقات أو تفاهمات ثنائية قد تُهمش الدور الأوروبي في القضايا الأمنية والجيوسياسية، خاصة في مناطق مثل أوكرانيا وسوريا، وهذا سيضعف التحالفات الغربية، فالتقارب بين ترامب وبوتين يُنظر إليه على أنه قد يضعف الناتو والاتحاد الأوروبي، ويخلق تصدعات في التحالفات التقليدية التي تحكم النظام العالمي بعد الحرب الباردة.

العداء الأوروبي لروسيا ليس مجرد قضية سياسية عابرة، بل هو جزء من بنية تاريخية وثقافية عميقة. القمة بين ترامب وبوتين تمثل بالنسبة لأوروبا لحظة توتر وقلق، خوفًا من فقدان النفوذ وتغييرات قد تعيد تشكيل النظام الدولي بطريقة قد لا تكون في مصلحة القارة الأوروبية، فهذه القارة وعلى الرغم من محاولة بناء قوة عسكرية وسياسية مستقلة، إلا أنها ما زالت بعيدة عن تحقيق هذا الهدف، فقادتها يكتفون بالتصريحات ويبتعدون عن التنفيذ العملي، وهم يخشون فعلًا من المواجهة المباشرة مع روسيا ولا يجرؤون على الخوض فيها منفردين بمعزل عن الولايات المتحدة الأميركية، فجيوشهم ليس لديها الخبرة القتالية ومجتمعاتهم ترفض التورط في الحرب من أجل اوكرانيا، كما أن روسيا تستعد منذ زمن طويل لحرب محتملة مع الناتو، وهذه الحرب لن تقتصر على المواجهات التقليدية، فالضربات النووية التكتية أو الإستراتيجية هي العصا الغليظة التي ترفعها موسكو في وجه أوروبا.
The post لماذا تخشى أوروبا قمة ترامب-بوتين أكثر من أي شيء آخر؟ الجذور الخفية للعداء الأوروبي-الروسي appeared first on Defense Arabia.