دفاع العرب Defense Arabia
في عالم تتناقص فيه المسافات بين الخطر والقرار، وتتحوّل الأبعاد الجغرافية إلى مسارح مواجهة، من البر إلى البحر والجو والفضاء، تخرج روسيا من الأعماق لتعلن معادلة جديدة: لم تعد القوة تُقاس بعدد الرؤوس النووية ولا بسرعة الصواريخ، بل بقدرة الأمة على تدمير كل شيء من بعدها. قالها بوتين سابقاً “ما جدوى عالم لا توجد فيه روسيا؟” وها هو يعلنها مرة أخرى ولكن عبر التهديد بالدمار القادم من أعماق البحار، لأجل ذلك صُنعت “بوسيدون” الغواصة المسيرة النووية التي لم تُصنع لتخوض حربًا نووية فقط، بل ربما لتمنعها، فهي عقلاً مبرمجاً كي يتذكر أن البحر قد يكون آخر من ينتقم للأرض.

الغواصة النووية المسيرة أو الطوربيد العملاق “بوسيدون-Poseidon” ليس مجرد سلاح، بل إنه فكرة وعقيدة جديدة، جاء ليترجم رد روسيا على سجنها الجغرافي ومعضلتها الجيوبوليتيكية، فروسيا بعيدة عن البحار الدافئة، لا تمتلك إنتشاراً بحرياً واسعاً ولا قواعد ولا حرية للتدخل السريع، وهي تعيش مأزقاً مائياً قديماً، فمعظم بحارها شبه مغلقة: البلطيق محاصر بالناتو، الأسود مراقب من تركيا، الآركتيك على وشك التحوّل إلى ساحة تنافس أميركية، والهاديء يضج بالأساطيل اليابانية والأميركية. هذا التطويق البحري جعل روسيا قوة نووية محاصرة بالماء، لذلك كان لا بد من اختراع وسيلة اختراق صامتة تكسر هذا الطوق. وهنا جاء بوسيدون كأداة تحرّر جيوبوليتيكية قبل أن يكون سلاح دمار شامل، وها هي روسيا اليوم تتنفس من الأعماق، عبر “بوسيدون” الطوربيد النووي الذي يعيد تشكيل النفوذ البحري ويعيد روسيا إلى طلائع القوى البحرية.

طوربيد بوسيدون العملاق ليس سلاحاً تقليدياً، بل وحش تكنولوجي مدمر، طوله حوالي 22 متراً وقطره 1.6 م تقريباً، صُمم ليعمل بشكلٍ مستقل، يستطيع الغوص لمئات الأمتار وقطع آلاف الكيلومترات من دون أي تواصل بشري مباشر. يتحرك ببطء استراتيجي أو بسرعة قاتلة تصل إلى 200 كم/س تحت الماء، على عمق قد يتجاوز 1000 متر، خارج نطاق معظم أنظمة الكشف التقليدية، يحمل رأساً نووياً بقوة تدميرية تتراوح بين 2 ميغاطن حتى 100 ميغاطن، أي ما يعادل أكثر من بضعة آلاف قنبلة مثل تلك التي سقطت على هيروشيما. يمكن إطلاقه من الغواصة العملاقة التي تعمل بالوقود النووي فئة بيلغورود (Belgorod)، أو من الغواصة النووية خاباروفسك (Khabarovsk)، وكلاهما تستطيعان حمل 6 طوربيدات من هذا النوع.

تُدرج القيادة الروسية هذا الطوربيد العملاق تحت مفهوم “اليد الميتة البحرية”، لأنه قادر على تنفيذ ضربة انتقامية حتى لو دُمّر مركز القيادة الروسي بالكامل. وقد تكون فكرة “بوسيدون” جاءت رداً إنتقامياً على إنسحاب الولايات المتحدة من معاهدة الحد من القوى النووية متوسطة المدى عام 2019، ولكن المؤكد أنها قدمت من العمق الإستراتيجي الروسي المهدد من جهاتٍ متعددة، فمأزق الحرب مع أوكرانيا، وعلى الرغم من الإنتصارات الميدانية، أرهق روسيا معنوياً وإقتصادياً وعسكرياً، وتخشى روسيا من أي حرب شاملة مع الناتو قد لا تستطيع الصمود فيها، لذلك هي إختارت إستراتيجية تعزيز وتطوير مفهوم “الردع بالإنتقام”، ولا نتحدث هنا عن القدرة على تنفيذ الضربة النووية الثانية، بل ايضاً عن الضربة الأولى عند بوادر تعرضها لهزيمة في أي حرب تقليدية مستقبلية، والملاحظ هنا أن روسيا لا تعتمد فقط على القوة النووية التدميرية، بل على ديناميكية نشرها وإطلاقها، مع التركيز على سرعات وقدرات مناورة غير مسبوقة، لا يمكن إعتراضها أو مواجهتها أو حتى إكتشافها. وبوسيدون لا يحتاج إلى إذن إطلاق في لحظة الحرب. بل يمكن برمجته مسبقاً ليعمل تلقائياً بعد فقدان الاتصال بمركز القيادة، أي أنه يمثل إرادة نووية تستمر بعد تدمير القيادة، فرغبة بوتين في حال دُمرت روسيا، أن ينتقم البحر ويُدمر العالم معها.

في الوقت الذي أعلن فيه ترامب عن بناء مشروع “القبة الذهبية” لحماية سماء الولايات المتحدة، والبالغة كلفته حوالي 175 مليار دولار، جاء الخطر القادم من الأعماق، ليلغي فعاليتها وعلة وجودها، خاصة إذا عرفنا ان بوسيدون قادر على تدمير المدن الساحلية من لندن إلى نيويورك دون أن يتم إكتشافه أو التصدى له، ويمكنه من خلال إنفجاره في الماء من تكوين موجات تسونامي عملاقة تغرق عشرات المدن الساحلية، وها هو ترامب يأمر بإستئناف تجارب الأسلحة النووية الأميركية بعد توقف دام أكثر من ثلاثة عقود، رداً على إعلانات روسيا الأخيرة حول طوربيد بوسيدون وصاروخ الكروز الذي يعمل بالدفع النووي.
بوسيدون ليس سلاح نصر، بل سلاح انتحار متبادل، وليس سلاح المستقبل… بل صدى خوف الماضي الذي لم يختفِ بعد، إنه تذكيرٌ بأن من يمتلك الأعماق لا يحتاج إلى رفع صوته على السطح بعد الآن، وهمسٌ بأن الردع الحقيقي ليس في عدد الصواريخ، بل في القدرة على إخفاء نيتك حتى اللحظة الأخيرة.
The post بوسيدون: الطوربيد الذي صاغ مفهوم الردع الجديد appeared first on Defense Arabia.
.png)